صلاح الدين عبدالتواب

صلاح الدين عبدالتواب
  • الدولة مصر

الرافعي وقضية الإعجاز في القرآن الكريم
صلاح الدين عبد التواب18 يناير، 2007
في ظلال القرآن مقالات
يعد الأديب العالم والناقد المتذوق الرافعي واحدا من أفذاذ العلماء العرب والمسلمين في عصرنا الحديث الذين أسهموا بقسط وافر من الدراسات الأدبية والنقدية التي قامت حول قضية الإعجاز في القرآن الكريم.

ولم يكن غريبا من الرافعي أن يتصدى لهذا المجال العميق والدقيق من مجالات الدراسات الأدبية والنقدية التي دارت حول البيان القرآني المعجز، فهو الذي أمضى حياة حافلة في خدمة العربية وآدابها، والكتاب المبين الذي أنزل بلسانها، وهو الذي آلى على نفسه أن يكون لهذا الدين وكتابه القويم حارسه وحاميه.

وقد حدث أن نشرت إحدى الصحف مقالا لأحد الكتاب تناول فيه القرآن بسوء التأويل، فقال يخاطب صديقا له: من تراه يا بني يقوم لهذا الأمر إن سكت الرافعي؟ ثم جهر برده معلنا (تحت راية القرآن) بأن العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم، وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته، وأن فصاحة هذه اللغة ليست فقط في ألفاظها، ولكن في تركيب ألفاظها، كما أن الهزة والطرب ليست في النغمات ولكن في وجوه تأليفها، وهذا هو الفن كل الفن في الأسلوب، لأنه يرجع إلى الذوق الموسيقي في حروف هذه اللغة وأجراس حروفها … ومن ثم أخذ في إيضاح تلك النظرية الفنية الأسلوبية، التي تتميز بها العربية، والتي اختارها الله سبحانه لتكون خطابه إلى العالمين متمثلا في هذا القرآن العظيم.

وواضح أن كتاب الرافعي (إعجاز القرآن) لم يكن هو كل ما كتبه في مجال الدراسات الأدبية والنقدية التي قامت حول هذا الإعجاز، فقد بذل جهدا ليس بالقليل لكتابة مؤلفه في (أسرار الإعجاز) الذي أتم فصوله متحدثا فيه عن البلاغة العربية وعن بلاغة القرآن وأسرار إعجازه، كما تناول في الفصل الأخير منه آيات من القرآن الكريم على أسلوب من التفسير، يبين سر إعجازها في اللفظ والمعنى والفكرة العامة، وقد نشر منها بعض الآيات المفسرة في (الرسالة) وانتشر بعضها الآخر في تضاعيف كتابه (وحي القلم). أما كتابه (أسرار الإعجاز) فلم يقدر له أن يطبع بعد أن عاجلت صاحبه يد المنون قبل أن يخرج الكتاب إلى الوجود (1).

منهج الرافعي في (إعجاز القرآن)لم يشأ الرافعي منذ أن بدأ كتابه (إعجاز القرآن) أن يطلق القول في هذا الإعجاز دون تحديد لمنهجه فيه، لذلك أشار في مقدمته إلى هذا المنهج الذي اتبعه، وكان مما قاله: “وبعد … فإننا سنقول في القرآن الكريم ما يتعلق بلغته ويتصل ببلاغته ويكشف من أوجه الإعجاز في ذلك، فإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وإن القول فيه ما برح كثير المذاهب متعدد الجهات متصل الحدود، يفضي بعضها إلى بعض، إذ هو كتاب السماء إلى الأرض مستقرا وسمتودعا، وقد جاء بالإعجاز الأبدي الذي يشهد على الدهر ويشد عليه … بيد أنه لابد لنا من صدر نبتدئ به القول في تاريخه وجمعه وتدوينه وقراءاته، حتى تكون هذه سببا إلى الكلام في لغته وبلاغته ثم إعجازه في اللغة والبلاغة، لأن بعض ذلك يريد بعضه، ونحن نستعين الله ونستمده ونستكفيه”(2). ومن ثم خرج كتاب (إعجاز القرآن) للرافعي في ترتيب منظم، وتبويب منطقي، التزم به منذ المقدمة حتى نهاية الحديث عن الإعجاز، وما دخل بابا وانتهى منه إلا ليسلمه للذي يليه، حتى وصل إلى فكرته الأساسية في الإعجاز، وهي متمثلة في نظم القرآن، وإعجاز تأليفه، ثم أخذ يتدرج مع فكرة النظم هذه متتبعا الحروف وأصواتها إلى الكلمات وحروفها، إلى الجمل وكلماتها، حتى تأكد له بعد هذه الدراسات المتصلة غرابة الأوضاع التركيبية في القرآن الكريم بعد أن تجلت فيه تلك الروح التي أودعها الله آياته المحكمات، والتي لا يمكن أن يدرك كنهها أحد إلا الله وحده منزل القرآن..

معنى الإعجاز في نظر الرافعيوكان على الرافعي .. بعد أن استعرض ما قيل في وجوه الإعجاز من المتكلمين وغيرهم من العلماء أن يحدد حقيقة الإعجاز التي ارتضاها واطمأن إليها فقال: “أما الذي عندنا في وجه إعجاز القرآن وما حققناه بعد البحث .. أن القرآن معجزة بالمعنى الذي يفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه .. فالقرآن معجز في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنساني، ومعجز كذلك في حقائقه، وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء، فهي باقية ما بقيت، .. وإنما مذهبنا بيان إعجازه في نفسه، من حيث هو كلام عربي، لأننا إنما نكتب في هذه الجهة من تاريخ الأدب دون جهة التأويل والتفسير(3).

من هنا يبدو واضحا تعريف الرافعي لوجهته في محاولة للوقوف على حقيقة الإعجاز بما يتلاءم مع اتجاهه الأدبي، ولذا كانت مقدماته من قبل تمهيدا للحديث عن الأسلوب القرآني، وأن هذا الأسلوب هو مادة الإعجاز العربي في كلام العرب كله، وأن العرب لما ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا ألفاظهم بعينها متساوقة فيما ألفوه من طرق الخطاب وألوان المنطق، غير أنهم ورد عليهم من طرق نظمه ووجوه تركيبه ونسق حروفه في كلماته، وكلماته في جملها، ونسق هذه الجمل في جملته ما أذهلهم عن أنفسهم من هيبة رائعة وروعة مخوفة، وخوف تقشعر منه الجلود(4).

فالنظم  ليس غير- هو مناط الإعجاز الذي اعتد به الرافعي، لأنه آية الجمال والجلال في هذا القرآن الكريم. وكذلك تناول موضوع النظم بالشرح والتحليل وجعله الفكرة الأساسية التي دار حولها في كتابه (إعجاز القرآن).

فكرة النظم في دراسة الرافعيمع اعتراف الرافعي بأنه ليس أول من قال بفكرة النظم في إعجاز القرآن، إلا أنه كان حريصا على أن يتناول هذه الفكرة من وجهة نظره ومن حيث أدركها وتذوقها، ولذلك تجده يقول: “والكلام بالطبع يتركب من ثلاثة: حروف هي من الأصوات، وكلمات هي من الحروف، وجمل هي من الكلم .. وقد رأينا سر الإعجاز في نظم القرآن يتناول هذه كلها بحيث خرجت من جميعها تلك الطريقة المعجزة التي قامت به، فليس لنا بد في صفته من الكلام في ثلاثيتها جميعا”(5).

ومن هذا المنطلق بدأ الرافعي في شرح حقيقة الإعجاز في البيان القرآني من وجهة نظره، وبالشكل الذي حدد به طريقته، بما يخالف طرائق السابقين الذين رأوا في دقة النظم  بشكل عام- المظهر الرائع في الإعجاز، وبخاصة ما رآه عبد القاهر الجرجاني من قبله في هذا المجال.

ولعله من هنا يتضح أن الرافعي قد عالج فكرة النظم على أساس أن له فيها فهما خاصا أدق وأشمل مما كان يراه عبد القاهر.

فالرافعي مثلا لم يحصر فكرة النظم في توخي قواعد النحو مثل عبد القاهر الذي قال: “واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأًوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها”(6).

كذلك عني الرافعي كبير العناية بالعلاقة بين الحروف أنفسها وما قد تدل عليه من المعاني، بينما لم يولها عبد القاهر العناية نفسها، وقد تجلى ذلك عندما أشار عبد القاهر إلى أن نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط من غير أن يكون هذا النظم ناشئا عن معنى اقتضاه، فلا صلة عنده إذن بين الكلمة الواحدة ومعناها، فضلا عن أن يكون للحرف نفسه صلة بالمعنى، فلو أن واضع اللغة كان قد قال (ربض) مكان (ضرب) لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد … وأما نظم الكلام فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني وترتيبها على حساب ترتيب المعاني في النفس، فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو النظم الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيفما جاء واتفق”(7).

لذلك كانت نظرة الرافعي إلى النظم أدق وأشمل، حيث نظر مبتدئا من الحروف وأصواتها، وما قد تدل عليه هذه الحروف ذاتها من معنى متصل بها، ثم تنقل الرافعي مع هذا النظم إلى الكلمات وحروفها، ثم إلى الجمل وكلماتها، ليصل من وراء ذلك كله إلى غرابة الأوضاع التركيبية في نظم القرآن كله.

ولعله من الإنصاف هنا أن نقول: “إن ابن سنان الخفاجي المتوفى سنة 466هـ قد سبق بالحديث عن الحروف وأصواتها، والكلمات وحروفها ثم عن الكلام المؤلف وموسيقى التركيب .. إلا أنه قد أخذ عليه تداخل المعلومات فيما يتصل بهذا الموضوع إضافة إلى عدم ترتيب الأفكار فيه، فهو يتكلم مثلا عن الحروف ثم يعقبها بالكلمات ثم يعود إلى تقسيم الحروف، وفي الحديث عن تآلف الكلمات يدخل فيها الحديث عن الصور البيانية كحسن الاستعارة وحسن الكناية وغير ذلك

أما تناول الرافعي لفكرة النظم كما رآها، فقد كان تناولا مرتبا وموضوعيا ومنطقيا، ممزوجا لدراسة تطبيقية على نماذج متنوعة من التعبير البياني في القرآن الكريم، في محاولة لإبراز معالم الجمال والكمال المعجز في آيات الله المحكمات.

كذلك إذا كان عبد القاهر قد عني في نظريته بالكلمة المفردة قبل أن تدخل في تركيب إلا بقدر ما تكون مألوفة غير مبتذلة ولا ثقيلة في اللسان، فلعله رأى ذلك لأن الإعجاز في نظره لا يرجع إلى تلك الكلمة المفردة، لن جميع ما في القرآن من ألفاظ قد نطق بها العرب، وأن القرآن لم يأت منها بجديد يجهلونه، وإنما الجديد الذي أعجزهم هو تأليفها ونظمها، ولهذا انصرف إلى النظم بمعناه الذي ارتضاه.

أما الرافعي، فقد عني أيضا بالكلمة المفردة في النظم، ولعل منشأ تلك العناية ما كان يستشعره من أن القرآن الكريم كما هو معجز في نظمه وتركيبه، فهو معجز أيضا في إيحائه وتصويره، وقد تكون الكلمة الواحدة من الجملة، أو الحرف الواحد من الكلمة أبلغ في الإيحاء والتصوير من تركيب متعدد الكلمات والجمل، وتلك هي الروعة البالغة في الإعجاز.

من هنا كانت عناية الرافعي بالنظم في مفهومه الأدق والأشمل عنده عندما رأى في الكلمة الواحدة، وما قد يوحي به الجرس في تركيب حروفها من دلالات متصلة بحكاياتها للمعنى من قوة أو ضعف، الأمر الذي يعطيها إيحاء معينا وبريقا خاصا له أثره البالغ في النفوس، ومن أجل ذلك قامت دراسته لهذه الفكرة على أساس تلك الأمور الثلاثة معا:

أ- الحروف وأصواتها.

ب- الكلمات وحروفها.

ج- الجمل وكلماتها.
وكانت تلك الدراسة الواعية الدقيقة التي تنم عن مدى التذوق الأدبي والفهم الذكي من جانب الرافعي لهذه العربية بحروفها وأصواتها وجمالها وروعة إيحائها ودقة تصويرها .. تلك العربية التي اختارها الله تعالى لتكون لسان كتابه المحكم والحكيم.

(أ) الجانب التطبيقي على فكرة النظم عند الرافعي:

أما عن الجانب التطبيقي، فقد بدأ الرافعي تفصيله كتوضيح فكرته بدراسة هذا النظم أولا في الحروف وأصواتها، ذلك لأن الحروف بما يصدر عنها من أصوات تعد المادة الأولى للتركيب اللغوي، ومن ثم نراه يبين أن وضع الحروف ذاتها في كلماتها قد استلفت أذهان العرب  إذ أنهم لما قرئ عليهم القرآن رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله ألحانا لغوية رائعة، كأنه لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة، قراءتها هي توقيعها وإيقاعها، فلم يفهم هذا المعنى، وأنه أمر لا قبل لهم به، وكان ذلك أبين في عجزهم، حتى إن من عارضه منهم  كمسيلمة- جنح في خرافاته إلى ما حسبه نظما موسيقيا أو بابا منه، وكأنه فطن إلى أن الصدمة الأولى للنفس العربية إنما هي في أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها، وليس يتفق ذلك في شيء من كلام إلا بأن يكون وزنا من الشعر أو السجع.

وللتأكد من صحة هذه الدعوى يضع الرافعي بين أيدينا ميزانا دقيقا وعلميا في الوقت ذاته، إذ يدعو إلى تناول أي قطعة مما أبدعه فصحاء العرب في نثرهم وترتيلها على طريقة التلاوة في القرآن ما تراعى فيه أحكام القراءة وطرق الأداء، فلابد والحالة هذه من الإحساس بالفارق الكبير بين النظم والنظم، بل لابد من الشعور بالنقص الكبير في كلام البلغاء وانحطاطه في ذلك عن رمتبة القرآن، بل وأكثر من هذا، فإن محاولة الترتيل والتحسين لما يتناول من كلام البلغاء تذهب رونقه وجماله  وحسبك بهذا اعتبارا في إعجاز النظم الموسيقي في القرآن، وأنه مما لا يتعلق به أحد، ولا يتفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلا فيه .. لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها ومناسبة بعض ذلك لبعضه مناسبة طبيعية في الهمس والجهر والشدة والرخاوة والتفخيم والترقيق وغير ذلك من صفات الحروف.

وليس يخفى أن مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي، وأن هذا الانفعال بطبيعته إنما هو سبب في تنويع الصوت بما يخرجه فيه مدا أو غنَّة أو لينا أو شدة، وبما يهيئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه على مقادير تناسب ما في النفس من أصولها، ثم هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع، أو الإطناب والبسط بمقدار ما يكسبه من الحدة والارتفاع والاهتزاز وبعد المدى ما هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى.

وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلا صورة تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقا عجيبا، يلائم نوع الصوت والوجه الذي يساق عليه بما ليس وراءه في العجب مذهب. وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة وأثرها طبيعي في كل نفس .. ولو نزل القرآن بغيرها لكان ضربا من الكلام البليغ الذي يطمع فيه أو في أكثره. ولكنه انفرد بهذا الوجه المعجز فتألفت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو أبدل بغيره أو أقحم معه حرف آخر لكان ذلك خللا بينا أو ضعفا ظاهرا في نسق الوزن وجرس النغمة وفي حس السمع وذوق اللسان(9).

ولعل الرافعي بهذا الكلام يعد أول من أثار فكرة الإعجاز بالنظم من طريق الإيقاع الصوتي للآيات المحكمات، وهو ذلك الإعجاز النابع من دقة الالتئام والتناسق بين كل من الحروف في كلماتها، والكلمات في جملها، والجمل في تراكيبها على نحو لا شبيه له ولا نظير.

(ب) الكلمات وحروفها (في دراسة الرافعي التطبيقية):

ومع انتقال الرافعي إلى هذه المرحلة في النظم نجده لا يزال على صلة بالتركيب الحرفي للكلمة، ومن ثم يشير إلى الإيقاع الصوتي للحروف وما قد يوحي به من معان ويشير إليه من دلالات لها في النفس والحس معا أعظم التأثير، ويقرر أنه لما كان الأصل في نظم القرآن أن تعبر الحروف بأصواتها وحركاتها ومواقعها من الدلالة المعنوية، استحال أن يقع في تركيبه ما يسوغ الحكم في كلمة زائدة أو حرف مضطرب أو ما تجري مجرى الحشو والاعتراض كما تجد من كل ذلك في أساليب البلغاء(10).

ثم يتحدث عن العلاقة الدقيقة بين المعنى ولفظه بما يصدر عنه من صوت الحروف فيه، فيقول: “لا جرم أن المعنى الواحد يعبر عنه بألفاظ لا يجزئ واحد منها في موضعه عن الآخر إن أريد به شرط الفصاحة، لأن لكل لفظ صوتا ربما أشبه موقعه من الكلام ومن طبيعة المعنى الذي هو فيه، والذي تساق له الجملة، وربما اختلف وكان غيره بذلك أشبه(11).

وبهذا يمهد الرافعي لبيان أهمية الكلمة القرآنية ووضعها في محلها اللائق بها، بعد أن بين الدقة في وضع الحروف فيها بما يتناسب والمعنى المراد.

ويجيء دور الأمثلة التي يوضح بها الرافعي ما يريد تقريره فيقول: “ولو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجيء في الوضع والتركيب مجيء الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة، ويهيئ بعضها لبعض، ويساند بعضها بعضا، ولن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف مساوقة لها في النظم الموسيقي، حتى إن الحركة ربما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل، فلا تعذب ولا تستساغ، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنا عجيبا، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقا في اللسان واكتنفتها بضروب النغم الموسيقي حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقه، وجاءت متمكنة في موضعها وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة.

من ذلك لفظة “النُذُر” جمع نذير، فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معا فضلا عن جسأة هذا الحرف ونبوِّه في اللسان وخاصة إذا جاء فاصلة الكلام، لكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عنه موضع الثقل فيه، ولكنه جاء في القرآن على العكس وانتفى من طبيعته في قوله تعالى: “ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر” فتأمل هذا التركيب وتذوق مواقع الحروف، وأجر حركاتها في حسن السمع، وتأمل مواضع القلقة في دال (لقد) وفي الطاء من (بطشتنا) وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو (تماروا) مع الفصل بالمد كأنه تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جربت على اللسان ليكون ثقل الضمة عليه مستخفا بعد، ولتكون هذه الضمة قد أصابت موضعها، ثم ردد نظرك في الراء من (تماروا) فإنها ما جاءت إلا مساندة لراء (النذر) حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه، انتهى إليها من مثلها، فلا تجف عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه، ثم اعجب لهذه الغنة التي سبقت الطاء في نون (أنذرهم) وفي ميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في (النذر)(12).

صلاح الدين عبدالتواب

الكتب 1

الصورة الأدبية في القرآن الكريم

الصورة الأدبية في القرآن الكريم

الصورة الأدبية في القرآن الكريم -صلاح الدين عبدالتواب -الشركة المصرية العالمية للنشر لونج ...

الأقسام: البلاغة, الأدب

الناشر: الشركة المصرية العالمية للنشر_لونجمان

عدد الصفحات: 275

سنة النشر: 1995

المحقق: محمود علي مكي

المترجم: ---