6- قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [البقرة: 11].
القراءات الواردة في الآية:
القراءة الأولى:(قِيلَ) بالكسر الخالص للقاف، قرأ بها نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر، وخلف العاشر، وابن ذكوان عن ابن عامر، وروح.عن يعقوب.
القراءة الثانية: (قِيلَ) بإشمام كسر القاف ضماً، قرأ بها هشام عن ابن عامر، و الكسائي، ورويس عن يعقوب.
اللغات الواردة في القراءة:
- (قِيلَ) بالكسر الخالص لغة أهل الحجاز ، ولغة لقريش ومن جاورهم.
- (قِيلَ) بالإشمام لغة كثير من قَيْسٍ ، وعَامَّة أَسَدٍ.
قال الفَرَّاء [ت207هـ]: «وأهلُ الحجازِ من قُريْشٍ ومَن جاوَرَهم يقولون: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بكسرِ القافِ في (قِيلَ)، و(جِيءَ)، و(سِيئَتْ)، و(حِيلَ)، و(غِيضَ)، وما كان مثلَه من ذواتِ الثلاثةِ من الياءِ والواوِ؛ فإن أوَّلَه مكسورٌ، وهو بالياءِ. وكثيرٌ من قَيْسٍ من عُقَيْلٍ ومَن جاوَرَهم، وعامةُ أَسَدٍ يُشِيرون إلى ضمةِ القافِ من(قِيلَ)، و(حُيلَ)،وهي قراءةُ الكِسَائِيِّ، وقد تابَعَه عليها كثيرٌ من القُرَّاءِ».
القراءة وبيئة القراء:
قراءة (قِيلَ) بالكسر الخالص التي قرأ بها كلٌّ من: ابن كثير، ونافع، وأبي جعفر- موافقة للغة أهل الحجاز بيئتهم، وقراءة (قِيلَ) بالإشمام التي قرأ بها الكسائي توافق لغة بني أسد بيئتهم.
التوجيه الصوتي للقراءتين:
التوجيه الصوتي لقراءة ضم أول الأفعال، أنه أراد أن يبيِّن أن أصل أول تلك الأفعال هو الضم، وفي شأن كثير من كلام العرب المحافظة على بقاء ما يدل على الأصول، وقد وصف مكي [ت437هـ] أن الإشارة إلى الضم في هذه الأفعال تُسمع وتُرى في نفس الحرف الأول، حيث قال: «وحجة من قرأ بالإشمام، في أوائل هذه الأفعال الستة، أصلها أن تكون مضمومة؛ لأنها أفعال لم يُسمَّ فاعلها، منها أربعة، أصل الثاني منها واو، وهي:(سيء، وسيق، وحيل، وقيل)، ومنها فعلان، أصل الثاني منها ياء، وهما:(غيض، وجيء)، وأصلها: سُوِي، قُوِل، حُوِل، سُوِق…)، ثم ألقيت حركة الثاني منه على الأول فانكسر، وحذفت ضمته، وسكن الثاني منها، ورجعت الواو إلى الياء؛ لانكسار ما قبلها وسكونها، فمن أشم أوائلها الضم أراد أن يبين أن أصل أوائلها الضم، كما أن من أمال الألف في: (رمى، وقضى، ونحوه)، أراد أن يبين أن أصل الألف الياء، ومن شأن العرب في كثير من كلامها المحافظة على بقاء ما يدل على الأصول، وأيضاَ فإنها أفعال بنيت للمفعول، فمن أَشَمَّ أراد أن يبقي في الفعل ما يدل على أنه مبني للمفعول لا للفاعل».
وتوجيه قراءة الإشمام بَيَّنَها الأزهري [ت370هـ] بقوله: «ومن ضم فإنه يُشِمُّ ولا يُشْبِعُ الضم، والعربي الناشئ في البادية يُطَوِّع لسانه لضمة خفيفة يجفو عنها لسان الحضري المتكلف».
الظاهرة الصوتية التي تنتمي إليها هذه القراءة:
الإشمام على سبعة أفعال في المتواترة :
(قِيلَ، وَغِيضَ، وَجِيءَ، وَحِيلَ، وَسِيقَ، وَسِيءَ، وَسِيئَتْ)، فَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ وَرُوَيْسٌ بِإِشْمَامِ الضَّمِّ كَسْرَ أَوَائِلِهِنَّ، وَافَقَهُمُ ابْنُ ذَكْوَانَ فِي (حِيلَ وَسِيقَ وَسِيءَ وَسِيئَتْ)، وَوَافَقَهُمُ الْمَدَنِيَّانِ فِي (سِيءَ وَسِيئَتْ) فَقَطْ، وَالْبَاقُونَ بِإِخْلَاصِ الْكَسْرِ.
حقيقة الاشمام:
المقصود بالإشمام هنا: كسرٌ يخالط كسرتَه شيءٌ من ضَمٍّ يُسمع.
قال ابن أبي مريم [ت بعد 565 هـ]:«الإشمام تهيؤ اللفظ بالضمة وضم الشفتين إستعداداً لإخراج ما كان من جنس الواو، وهذا لا يمكن مع الإشارة إلى الكسرة أو الفتحة».
وهذا الإشمام واحد من أربعة أنواع للإشمام، بيانها فيما يأتي:
الأول: ضم الشفتين بعد إسكان الحرف عند الوقف، وقد عرَّفه ابن الجزري [ت833هـ] بأنه: «عبارة عن الإشارة إلى الحركة من غير تصويت »، وهو ما يقابل النوع الثاني عند اللغويين، إلا أن القراء قيَّدوه بالضمة فقط؛ يقول ابن الجزري: «وقال بعضهم: أن تجعل شفتيك على صورتها إذا نطقت بالضمة».
أمَّأ غرض العرب من الوقوف بالروم والإشمام، فهو حرصهم على إبانة ما للحرف من الحركة، قال مكي [ت437هـ]: «اعلم أن الروم والإشمام إنما استعملتهما العرب في الوقف لتبيين الحركة كيف كانت في الوصل».
وقد يؤتى به لغرض دِلالي، قال أبو علي الفارسي [ت377هـ]:«ألا ترى أنهم قالوا: إن روم الحركة يفصل به بين المذكر والمؤنث: نحو رأيتكِ ورأيتكَ».
على أن سيبويه [ت180هـ] ذهب إلى أن غرض من رام الحركة أو أَشَمَّ: الفصل بين ما كان سكونه لازماً وما كان عارضاً للوقف، حيث قال: «وأمَّا الذين راموا الحركة، فإنهم دعاهم إلى ذلك الحرص على أن يُخْرِجُوها من حال ما لزمه إسكان على كل حال، وأن يعلموا أن حالها عندهم ليس كحال ما سكن على كل حال، وذلك أراد الذين أشموا، إلا أن هؤلاء أشد توكيداً».
الثاني: خلط حركة بحركة أخرى، كخلط الكسرة بالضمة، في نحو: (قِيلَ) (غيض) ، وهو المراد في القراءة هنا.
الثالث: إخفاء الحركة بين الحركة والساكن، نحو: ( لا تأمنا) ، وهو عين النوع الأول عند الوقف إلا أنه هاهنا مع لفظك بالنون، أي الأولى، وفي الوقف: عقب الفراغ من الحرف.
الرابع: خلط حرف بحرف آخر، كخلط الصاد بالزاي، وقد تقدم الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى : (الصراط) ، و (أصدق).
الإشمام في اللهجات العربية:
ذكر أبو حيان [ت745هـ] اللغات في القراءات السابقة بقوله: «إِذَا بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ، أٌخْلِصَ كَسْرُ أَوَّلِهِ وَسَكَنَتْ عَيْنُهُ يَاءً فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ وَمُجَاوِرِيهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَضُمَّ أَوَّلُهَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ قَيْسٍ وَعَقِيلٍ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ، وَعَامَّةِ بَنِي أَسَدٍ، وَبِهَذِهِ اللُّغَةِ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ فِي: (قِيلَ، وغيض، وحيل، وسيىء، وَسِيئَتْ، وَجِيءَ، وَسِيقَ). وَافَقَهُ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ فِي: سيىء، وَسِيئَتْ. زَادَ ابْنُ ذَكْوَانَ: حِيلَ، وَسَاقَ. وَبِاللُّغَةِ الْأُولَى قرأ باقي القراء، وَفِي ذَلِكَ لُغَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ إِخْلَاصُ ضَمِّ فَاءِ الْكَلِمَةِ، وَسُكُونِ عَيْنِهِ وَاوًا، وَلَمْ يُقْرَأْ بِهَا، وَهِيَ لُغَةٌ لِهُذَيْلٍ، وَبَنِي دُبَيْرٍ».
د. فيصل الجوده