6 – عَبْدُ اللَّه بنُ مَسْعُودِ – رضي الله عنه -.
عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودِ بنِ الْحَارِثِ بنِ شَمْخِ بنِ مَخْزُومِ بنِ صَاهِلَةَ بنِ الْحَارِثِ بنِ تَمِيمِ بنِ هُذَيْلِ بنِ مُدْرِكَةَ بنِ إِلْيَاسِ بنِ مُضَرِ بنِ نِزَارِ بنِ مَعْدِ بنِ عَدْنَان الهُذَلَيُّ، وكان يعرف أيضاً بأمه فيقال له: ابن أم عبد، أَبُوْ عَبْد الرَّحْمَن.
تلقيه للقرآن :
عرض القرآن على النبي ﷺ، وورد في أثر ضعيف أنه عرض القرآن على الإمام عَلِيّ بن أَبِي طَالِب- رضي الله عنه-.
قرآنيته :
1 – شهوده لِلْعَرْضَةِ الأخيرة في عهد النبي ﷺ ، وهو ما أثبته ابن عَبَّاس – رضي الله عنهما – عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاس قَالَ: « أَيُّ الْقِرَاءَتَيْنِ تَعُدُّونَ أَوَّلَ ؟ قَالُوا: قِرَاءَةَ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَا بَلْ هِيَ الْآخِرَةُ، كَانَ يُعْرَضُ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ عُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فَشَهِدَهُ عَبْدُ اللَّهِ فَعَلِمَ مَا نُسِخَ مِنْهُ وَمَا بُدِّلَ»، وهو ما أثبته ابن مسعود نفسه، حيث قال : « فقرأت القرآن من فِيِّ رسول ﷺ ذلك العام ، والله لو أني أعلم أن أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغينه الإبل لركبت عليه والله ما أعلمه ».
2- جاء ابن مسعود – رضي الله عنه- في رأس إسناد أئمة القراءات: عاصم وحمزة والكسائي من السبعة، ويعقوب وخلف من الثلاثة، والأعمش من الأربعة، وإسنادهم متصل بواسطته إلى النبي ﷺ مباشرةً.
تلامذته في القراءة:
عرض عليه القرآن: الأسود بن يزيد النَّخَعِي ت(75هـ) ، وتميم بن حَذْلَم ، والحارث بن قيس ، وزر بن حُبَيْش ، وعُبَيْد بن قيس ، وعُبَيْد بن نضلة الخزاعي ت(75هـ) ، وعلقمة بن قيس النَّخَعِي ت(62هـ) ، وعبيدة بن عَمْرو السلماني ت(72هـ) ، وعَمْرو بن شَرَحْبِيْل الهمداني ، وأبو عَبْد الرَّحْمَن الْسُّلَمِي ت(73هـ) ، وأبو عَمْرو سعد بن إياس الشيباني ت(96هـ) ، وزيد بن وهب ت(80هـ) ، ومسروق بن الأَجْدَع الهمداني ت(63هـ) ، وعَمْرو بن ميمون الأودي ت(75هـ) ، والحارث بن عبد الله الأَعْوَر ت(95هـ) ، والربيع بن خُثَيْم ت(90هـ) ، وشَقِيْق بن سَلَمَة ت(72هـ) .
جهوده في القراءات وعلومها :
1 – روى الكثير من القراءات المتواترة والشاذة، وكتب القراءات والتفاسير مليئة بها.
2 – روى بعض ما قُرئ به من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ومن ذلك :« فَأَمَّا اليَتِيْمَ فَلَا تَكْهَر » وأنشد لابن دارة التغلبي :
” فَقَامَ لا يَحْفَلُ ثُمَّ كَهَرَا ولا يُبَالِي لَوْ يُلَاِقِيَ عَهَرَا “
والكهر الانتهار، وكان يُعَدُّ الاختلاف من قبيل: تعال، وهلم، وأقبل، أو ما يسمى بالمشترك اللفظي، قال عبد الله بن مسعود:« وقد سمعت القراءة فسمعتهم متقاربين فاقرءوا كما عُلِّمتم، وإياكم والتنطع والاختلاف، وإنما هو كقول أحدكم هلم وتعال ».
3 – حوى مصحفه الكثير من القراءات التفسيرية، ومن ذلك :
أ- قرأ عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- : « فَصِيَامُ ثلاثةِ أَيامٍ مُتَتَابِعاتٍ »، للتوضيح والزيادة في البيان. فهذه قراءة شاذة فسرت قراءة متواترة، ومن هنا كانت للقراءات بمختلف أنواعها قيمة كبيرة بالنسبة للمفسر، فكان كلما خفي عليه مدلول الآية، أو تعذَّر عليه الوصول إلى المراد منها، رجع إلى القراءات يلتمس فيها الكشف عن المعنى .
وكان عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- يقرأ: « والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما ».
ب- و في قراءة عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه-: « إني أراني أعصر عِنَباً ».
جـ ـ وروى مجاهد في قراءة عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه-: « واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا ».
4 – عرض على النبي ﷺ القرآن عرضاً مباشراً، وسمع النبي ﷺ قراءته، وتأثر منها، وتأكد من حسن أدائه، في البخاري عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- قال: « قال لي رسول الله ﷺ: اقرأ عَلَيّ، فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل! قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري، وعن شَقِيْق بن سَلَمَة قال: خَطَبَنَا عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ فقال: « والله لقد أَخَذْتُ من فِيِّ رسول اللَّهِ ﷺ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، والله لقد عَلِمَ أَصْحَابُ النبيﷺ أَنِّي مِن أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وما أنا بِخَيْرِهِمْ » قال شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ في الْحِلَقِ أَسْمَعُ ما يَقُولُونَ فما سمعت رَادًّا يقول غير ذلك.
5 – أمر النبي ﷺ أصحابه بالأخذ عنه والتلقي منه، وذلك بعد أن اطمأن النبي ﷺ إلى حفظه وجودة أدائه، فعن مَسْرُوقٍ قال ذُكِرَ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ عِنْدَ عبد اللَّهِ بن عَمْرو فقال: ذَاكَ رَجُلٌ لَا أَزَالُ أُحِبُّهُ سمعت النبي ﷺ يقول: «خُذُوا الْقُرْآنَ من أَرْبَعَةٍ من عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ فَبَدَأَ بِهِ وَسَالِمٍ مولى أبي حُذَيْفَةَ وَمُعَاذِ بن جَبَلٍ وَأُبَيّ بن كعب »، وفي رواية: «استقرئوا القرآن من أربعة ».
6 – جاء ابن مسعود في رأس إسناد أئمة القراءات: عاصم وحمزة والكسائي من السبعة، ويعقوب وخلف من الثلاثة، والأعمش من الأربعة.
7 – يعتبر عبد الله بن مسعود أول من جهر القرآن، عن القاسم بن عَبْد الرَّحْمَن قال: «كان أول من أفشى القرآن بمكة من فِيّ رسول الله ﷺ عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه-» ، وعن عُرْوَة بن الزُّبَيْر عن أبيه قال: «إن أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله ﷺ بمكة عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه-».
8 – شهد العَرْضة الأخيرة للقرآن مع النبي ﷺ ، وكان أحدث الناس عهداً بها، عن محمد بن سِيْرِيْن قال: «نبئت أن ابن مسعود كان يقول: لو أعلم أحداً تبلغنيه الإبل أحدث عهداً بالعَرْضة الآخرة مني لأتيته أو لتكلفت أن آتيه».
9 – كما كان على علم بتوجيه وفقه القراءات، ومن ذلك: « فارقوا » بزيادة ألف، وكان – رضي الله عنه- قد تأوَّل بقراءته تلك: كذلك أن دين الله واحد وهو دين إبراهيم الحنيفية المسلمة ففرَّق ذلك اليهود والنصارى فتهوَّد قوم وتنصَّر آخرون، فجعلوه شيعاً متفرقة.
10 – أسس مدرسةً للإقراء بالكوفة، وذلك حين أرسله الفاروق – رضي الله عنه- إليها، قال ابن مجاهد: «وأما أهل الكوفة فكان الغالب على المتقدمين من أهلها قراءة عبد الله بن مسعود ؛ لأنه هو الذي بعث به إليهم عُمَر بن الخَطَّاب – رضي الله عنه- ليعلمهم فأخذت عنه قراءته قبل أن يجمع عُثْمَان الناس على حرف واحد ثم لم تزل في صحابته من بعده يأخذها الناس عنهم كعلقمة، والأسود ابن يزيد، ومسروق بن الأَجْدَع، وزر ابن حُبَيْش، وأبي وائل، وأبي عَمْرو الشيباني، وعبيدة السلماني وغيرهم».
11 – ذهب إلى حمص وقرأ على أهلها القرآن، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود – رضي الله عنه- قَالَ: « كُنْتُ بِحِمْصَ فَقَالَ لِى بَعْضُ الْقَوْمِ: اقْرَأْ عَلَيْنَا، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ سُورَةَ يُوسُفَ – قَالَ – فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَاللَّهِ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ، قَالَ: قُلْتُ وَيْحَكَ وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ لِى «أَحْسَنْتَ » … »، وفي الأثر دلالة على أن ابن مسعود كان يقرأ القرآن كما تلقاه من النبي ﷺ من غير زيادة ولا نقصان، وأن القراءة توقيفية وهي سنة يأخذها الآخر عن الأول .
12 – كان حاضراً عندما قرر النبي ﷺ شرط التلقي في القراءة، وجعله الفيصل عند الاختلاف، عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه-: قال: « أقرأني رسول الله ﷺسورة الرحمن فخرجت إلى المسجد عشيةً فجلس إِلَيَّ رهط فقلت لرجل: اقرأ عليّ فإذا هو يقرأ حروفاً لا أقرؤها، فقلت: من أقرأك ؟ قال: أقرأني رسول الله ﷺ فانطلقنا حتى وقفنا على رسول الله ﷺ، فقلت: اختلفنا في قراءتنا، فإذا وجه رسول الله ﷺ فيه تغيير، ووجد في نفسه حين ذُكر الاختلاف، فقال: إنما هلك من قبلكم بالاختلاف، فأمر علياً فقال: «إن رسول الله ﷺ يأمركم أن يَقرأ كل رجل منكم كما عُلم؛ فإنما هلك مَنْ قبلكم بالاختلاف قال: فانطلقنا وكل رجل منا يقرأ حرفاً لا يقرؤه صاحبه »، فالشاهد من الرواية السابقة: أن النبي قرَّر أن القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول، وأن التلقي هو الأساس في القراءة، وعند هذا التقرير كان ابن مسعود – رضي الله عنه-حاضراً، وقد أدرك أن القرآن أوجه وكل يقرأ كما عُلٍّم.
13 – كانت لديه مؤهلات عظيمة تدل على تمام حفظه وقوة أهليته في القرآن، ولذا كان- رضي الله عنه- يملي المصحف زمن الفاروق، وقد أقره الفاروق على ذلك ، فعن زَيْدِ بن وَهْبٍ قال جاء رَجُلٌ إلى عُمَر بن الخَطَّاب – رضي الله عنه- فقال: « يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تَرَكْتُ بِالْكُوفَةِ رَجُلاً يُمْلِي الْمَصَاحِفَ عن ظَهْرِ قَلْبِه،ِ فغضب عُمَرُ حتى انْتَفَخَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قال: من هو ؟ قال: عبد اللَّهِ ابن مَسْعُودٍ فقال: لِلَّهِ أَبُوكَ وَمَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ منه سمعت رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: من سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآَنَ غَضًّاً كما أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ على قِرَاءَةِ ابن أُمِّ عَبْدٍ».
14 – كان يشير على الصحابة ويحثهم على توخي الإسناد العالي في القراءة، فقد جاء عن معد يكرب قال: أتينا عبد الله بن مسعود فسألناه أن يقرأ علينا “طسم المائتين” – الشعراء – فقال : ما هي معي، ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله ﷺ خباب بن الأرت قال: فأتينا خباب بن الأرت فقرأها علينا »، فتركه لإقراءها لا لأنه لم يحفظها، وإنما لوجود من هو أعلى منه إسناداً و لعدم تلقيها مباشرةً من النبيﷺ، وأشار عليهم بالإسناد العالي عند خباب بن الأرت في هذه السورة “طسم المائتين” – الشعراء -.
15 – كما كان هو الإمام في تجويد القرآن وتحقيقه وترتيله مع حسن صوته، حتى قال ﷺ: « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضَاً طرِياً كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ »، وقد فهم عُمَر بن الخَطَّاب من هذا الحديث: أن المراد الحث من النبي ﷺ على قوة الحفظ مع إتقان الأداء، فعن قيس بن مروان قال: أتى رجلٌ عمر فقال : يا أمير المؤمنين قد تركت بالعراق رجلاً يُملي المصاحف عن ظهر قلب، فغضب عمر – رضي الله عنه- حتى احمر وجهه، فقال عمر، اعلم ما تقول – مراراً – فقال: ما أتيتك إلا بحق، فقال عمر – رضي الله عنه-: من هو ؟ قال: ابن أم عبد، فسكن حتى ذهب عنه الغضب، ثم قال: ما أصبح على ظهر الأرض أحدٌ أحق بذلك منه، وسأحدثكم عن ذلك: أن رسول الله ﷺ سَمَر في بيت أبي بكر – رضي الله عنه- ذات ليلة لبعض حاجته حتى أعتم، ثم رجع بيني وبين أبي بكر حتى انتهيت إلى المسجد إذا رجل من المهاجرين يصلي، فقام فتسمع لقراءته ما أدري أنا وصاحبي من هو؟ قال: فلما قام ساعةً قلت: يا رسول الله رجل من المهاجرين يصلي لو رجعت وقد اعتمت قال : فغمزني وجعل النبي ﷺ يستمع لقراءته قال: فركع وسجد ثم قعد يدعو فجعل النبيﷺ يقول : « سل تعطه! سل تعطه! » ولا أدري أنا وصاحبي من هو، حتى سمعنا رسول الله ﷺ يقول: « من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه كما يقرأ ابن أم عبد » قال: فذلك حين علمت أنا وصاحبي من هو، فغدوت إلى عبد الله لأبشره فقال: قد سبقك أبو بكر، و أيم الله ما سبقت أبا بكر إلى خير إلا سبقني»، وقال أبو عُثْمَان النهدي: « صلى بنا ابن مسعود – رضي الله عنه- المغرب بقل هو الله أحد، ولوددت أنه قرأ بسورة البقرة من حسن صوته وترتيله ».
16 – كان حريصاً على طلب المزيد من علم القراءات وغيره من العلوم، وكان مستعداً للهجرة في سبيل ذلك، عن مَسْرُوقٍ عن عبد اللَّهِ بن مسعود- رضي الله عنه- قال: « وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ما من كِتَابِ اللَّهِ سُورَةٌ إلا أنا أَعْلَمُ حَيْثُ نَزَلَتْ، وما من آيَةٍ إلا أنا أَعْلَمُ فِيمَا أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أحداً هو أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْتُ إليه».
17 – كما كان له ورد يومي لمعاهدة القرآن ومراجعته، ومن ذلك أنه كان يقرأ القرآن في غير رمضان في الأسبوع مرة، وفي رمضان كل ثلاث، عن محمد بن ذكوان قال: «سمعت عَبْد الرَّحْمَن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عبد الله – رضي الله عنه-: أنه كان يقرأ القرآن من الجمعة إلى الجمعة وفي رمضان يختمه في كل ثلاث».
18 – كما كان يكره التنطع والاختلاف في القراءة وينهى عنه، عن الأعمش عن أبي وائل قال: قال ابن مسعود – رضي الله عنه- قد تسمعت القراءة فسمعتهم مقاربين فاقرؤوا كما علمتم، وإياكم والتنطع والاختلاف.
19 – وردت عنه آثار في آداب حامل القرآن وما ينبغي أن يكون عليه، بعضها يصح وبعضها لا يصح وهي في كتب الحديث والتفسير والتراجم.
اعتراض ابن مسعود رضي الله عنه على عدم إشراكه في لجنه جمع القرآن :
لم يكن اعتراض عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- على الجمع العُثْمَاني لشيءٍ ما بقدر ما رأى لنفسه الأهلية للمشاركة في هذا العمل، وأنه أحق به من غيره، وكان من أسباب الاعتراض:
✅ أنه تلقى القرآن مباشرةً من النبي ﷺ قبل زَيْد بن ثَابِت t، فعن إسماعيل بن سالم بن أبي سعيد الأسدي قال سمعت عبد الله بن مسعود يقول: «أقرأني رسول الله ﷺ سبعين سورة أحكمتها قبل أن يسلم زَيْد بن ثَابِت».
✅ كونه أكبر سناً وأسبق إسلاماً من زيد بن ثابت وفي رواية قال: « قرأت على رسول الله ﷺ بضعة وسبعين سورة، وإن زيداً له ذؤابتان يلعب مع الصبيان»، حتى كره لزَيْد بن ثَابِت نسخ المصاحف، فقال: «يا معشر المسلمين: أُعْزَل عن نسخ كتاب المصاحف ويولاها رجل، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب أبيه كافر يريد زَيْد بن ثَابِت – رضي الله عنه- ».
من خلال فهم قصة الجمع سيتضح أن سبب عدم إشراك ابن مسعود – رضي الله عنه- في اللجنة المكلفة بالجمع من قبل عُثْمَان – رضي الله عنه- كان وجيهاً لما يلي:
🎁 أن ابن مسعود – رضي الله عنه- كان بالكوفة بعيداً عن عاصمة الخلافة وشغله بتعليم الناس القرآن وتفرغه لشؤون المسلمين هناك عفاه من هذا التكليف.
🎁 ثم إن زَيْد بن ثَابِت قد تراكمت خبرته في هذا المجال منذ أيام النبي ﷺ مروراً بجمع أبي بكر – رضي الله عنه-، كل ذلك وغيرها من الأسباب قد أدت إلى استبعاد عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه-، ولم يكن في ذلك حطٌ من قدره t، إنما كان إتاحة الفرصة لغيره من الصحابة المتخصصين في نفس المجال، وأهلية زيد معروفة في هذا الجانب.
🎁 كما أن ابن مسعود- رضي الله عنه كان اعتراضه بشرياً، كطبيعة أي إنسان يرى لنفسه الأهلية في المشاركة كونه أهلاً لذلك، ثم هي لحظةٌ مرت به ثم عاد إلى حاله الأول.
🎁 وقد أقر بطاعته لخلفية الأمة آنذاك عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه.
🎁 وفي آخر عمره وعند استحضاره لموقفه البشري تجاه قرار عُثْمَان- رضي الله عنه – بتشكيل اللجنة ندم ابن مسعود – رضي الله عنه- على ما كان منه، فقد قال حين نافر الناس عُثْمَان – رضي الله عنه- :« ما أحب أنى رميت عُثْمَان بسهم ».
رد بعض الشبهات عنه :
من الشبهات التي وردت عن ابن مسعود – رضي الله عنه- أنه حك المعوذتين من مصحفه، عن ابن عَبَّاس وابن مسعود- رضي الله عنهما – أنه كان يحك المعوذتين من المصحف، ويقول: لا تخلطوا القرآن بما ليس منه إنهما ليستا من كتاب الله، إنما أمر النبيﷺ أن يتعوذ بهما وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما، وعلى احتمال صحة ما روي عن ابن مسعود – رضي الله عنه- فإن لذلك تخريجات كثيرة ذكرها العلماء منها:
1 – ابن مسعود – رضي الله عنه رجع عن قوله ذلك، وهذا ما صرَّح به ابن كثير أيضاً حيث قال: «ثم قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة فإن الصحابة أثبتوهما في المصاحف الأئمة ونفذوها إلى سائر الآفاق كذلك، ولله الحمد والمنة».
2 – ويؤكد هذا القول عند الفحص لأسانيد القراء السبعة لمعرفة مدى وجود ابن مسعود – رضي الله عنه- فيها، فقراءة حمزة عن الأعمش عن زر بن حُبَيْش عن ابن مسعود – رضي الله عنه-، وعَاصِم بن أَبِي النُّجود عن زر ، وأبي عَبْد الرَّحْمَن الْسُّلَمِي، وأبي عَمْرو الشيباني، كلهم عن ابن مسعود – رضي الله عنه- ، وأبو عَمْرو بن العلاء عن عاصم بإسناده السابق ، والكسائي عن حمزة بإسناده السابق، وهو ما صرح به ابن الجزري حيث قال: « وإليه تنتهي قراءة عاصم وحمزةوالكسائي وخلف والأعمش »، وقراءة الأئمة المذكورين أُثْبِتَ فيها المعوذتين، ومما يؤكد ذلك شهود ابن مسعود – رضي الله عنه- لِلْعَرْضَةِ الأخيرة، فعن ابن عَبَّاس – رضي الله عنهما- قال: أي القراءتين ترون كان آخر القراءة ؟ قالوا: قراءة زيد، قال: لا، إن رسول الله ﷺ كان يعرض القرآن كل سنة على جبريل عليه السلام ، فلما كانت السنة التي قبض فيها عرضه عليه عرضتين فكانت قراءة بن مسعود آخرهن.
3- ومنهم من تأول ذلك بأن ابن مسعود – رضي الله عنه- لم يُؤْذَن له بكتابتهما في مصحفه، وليس معنى عدم كتابتهما إنكار قرآنيتهما، وهذا ما قال به القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب “الانتصار” وغيره، فقال: « لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن، وإنما أنكر إثباتهما في المصحف فإنه كان يرى أن لا يكتب في المصحف شيئاً إلا إِنْ كان النبيﷺ أذن في كتابته فيه، وكأنه لم يبلغه الإذن في ذلك، فهذا تأويل منه وليس جحداً لكونهما قرآناً »، قال ابن حجر معلقاً على قول الباقلاني: « وهو تأويل حسن إلا أن الرواية الصحيحة الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك؛ حيث جاء فيها ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله، نعم يمكن حمل لفظ كتاب الله على المصحف فيتمشى التأويل المذكور ».
4 – والجواب الرابع على تلك الشبهة: أن ما نُقِلَ عن ابن مسعود باطل وليس بصحيح، وهذا ما ذكره النووي في شرح المهذب، حيث قال: « وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح ففيه نظر » وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم فقال في أوائل المحلي: « ما نقل عن ابن مسعود من إنكار قرآنية المعوذتين فهو كذب باطل » وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره، حيث قال: « الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل » وقد علق ابن حجر – رحمه الله – على من قال ببطلان تلك الروايات عن ابن مسعود – رضي الله عنه- : « والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل بل الرواية صحيحة، والتأويل محتمل»، والصحيح – والله أعلم – هو التأويل على النحو السابق، وأن القول ببطلان الروايات بغير مستند ليس صحيح كما قال ابن حجر، وقد أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن وأن من جحد منهما شيئا كفر.
وفاته :
توفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين هجرية، ودفن بالبقيع وله بضع وستون سنة.
د .فيصل الجودة