ولد في منبج إلى الشمال الشرقي من حلب في سوريا. ظهرت موهبته الشعرية منذ صغره. انتقل إلى حمص ليعرض شعره على أبي تمام، الذي وجهه وأرشده إلى ما يجب أن يتبعه في شعره. كان شاعرًا في بلاط الخلفاء: المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز بن المتوكل، كما كانت له صلات وثيقة مع وزراء في الدولة العباسية وغيرهم من الولاة والأمراء وقادة الجيوش. بقي على صلة وثيقة بمنبج وظل يزورها حتى وفاته. خلف ديوانًا ضخمًا، أكثر ما فيه في المديح وأقله في الرثاء والهجاء. وله أيضًا قصائد في الفخر والعتاب والاعتذار والحكمة والوصف والغزل. كان مصورًا بارعًا، ومن أشهر قصائده تلك التي يصف فيها إيوان كسرى والربيع. حكى عنه: القاضي المحاملي، والصولي، وأبو الميمون راشد، وعبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي. وعاش سبع وسبعين سنة. ونظمه في أعلى الذروة.
وقد اجتمع بأبي تمام، وأراه شعره، فأعجب به، وقال: أنت أمير الشعر بعدي. قال: فسررت بقوله. وقال المبرد: أنشدنا شاعر دهره، ونسيج وحده، أبو عبادة البحتري. وقيل: كان في صباه يمدح أصحاب البصل والبقل. وقيل: أنشد أبا تمام قصيدة له، فقال: نعيت إلي نفسي
ومعنى كلمة البحتري في اللغة العربية: قصير القامة.
ولد البحتري بمنبج من أعمال حلب في سوريا سنة (821م/204 هـ)، ونشأ في قومه الطائيين فتغلبت عليه فصاحتهم، تتلمذ لأبي تمام وأخذ عنه طريقته في المديح ثم أقام في حلب وتعلم هناك ملكة البلاغة والشعر وأحب هناك (علوة) المغنية الحلبية التي ذكرها كثيرًا في قصائده. ثم تنقل بين البلاد السورية وغيرها، وهو ميدان للقلق والاضطراب، والخلافة ضعيفة لاستيلاء الأتراك على زمام الأمور. فتردد الشاعر في بغداد على دور عليتها. واتصل بالمتوكل فحظي لديه وأصبح عنده شاعر القصر ينشد الأشعار فتغدق عليه الأموال الوافرة.
ولما قتل المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان لبث الشاعر يتقلب مع كل ذي سلطان، حتى عاد سريعًا إلى منبج يقضي فيها أيامه الأخيرة فأدركته المنية سنة (897م/280هـ) ودفن في مدينة الباب.
للبحتري ديوان شعر كبير طبع مرارًا في القسطنطينية ودمشق ومصر وبيروت. وقد شرح أبو العلاء المعري قديمًا هذا الديوان وسماه عبث الوليد.
البحتري بدوي النزعة في شعره، ولم يتأثر إلا بالصبغة الخارجية من الحضارة الجديدة. وقد أكثر من تقليد المعاني القديمة لفظيا مع التجديد في المعاني والدلالات، وعرف عنه التزامه الشديد بعمود الشعر وبنهج القصيدة العربية الأصيلة ويتميز شعره بجمالية اللفظ وحسن اختياره والتصرف الحسن في اختيار بحوره وقوافيه وشدة سبكه ولطافته وخياله المبدع.
غزل [البحتري] بديع المعاني متدفق العاطفة، ويلحظ ذلك في القصائد التي بدأها بذكر علوة تلك المغنية التي احبها في حلب فهو حقيقي الشعور متوثب العاطفة. وهو على كل حال عامر بالرقة والحلاوة، مستوفي الجمال الفني. وقد دعي البحتري ((شاعر الطيف)) لإكثاره من ذكر خيال الحبيب...إلخ
وقال :
ويا مُدرِكَ عينيه ليقتلني | إنّي أخاف عليكَ العين من عيني | |
ليت مابين من أحب وبيني | مثل مابين حاجبي وعيني |
ومن غزله قوله في حبيبته:
سَلامُ اللهِ كُلَّ صَبَاحِ يَوْمٍ | عليكَ، وَ مَنْ يُبَلِّغ لي سَلامي؟ | |
لقد غادَرْتَ فِي جسدي سَقَامًا | بِمَا في مُقْلَتَيْكَ مِن السَّقام | |
وذكَّرَنِيكَ حُسْنُ الوَرْدِ لَمّا | أَتَي وَ لَذيذُ مَشروبِ المُدام | |
لَئِن قَلَّ التَواصُلُ أَوْ تَمَادَي | بِنَا الهِجرانُ عامًا بَعْدَ عامِ | |
أَأَتَّخِذُ العِراقَ هويً ودارًا | ومَن أَهواهُ في أَرضِ الشآم؟ |
أسلوب البحتري في الرثاء فخم جليل تغطي فيه العاطفة الفنية على العاطفة الحقيقية. وأحسن رثائه ما قاله في المتوكل.
ومن قوله يرثي المتوكل وقد قتل غيلة وكان حاضرا:
تَغَيّرَ حُسْنُ الجَعْفَرِيّ وأُنْسُهُ | وَقُوّضَ بَادي الجَعْفَرِيّ وَحَاضِرُهْ | |
تَحَمّلْ عَنْهُ سَاكِنُوهُ، فُجَاءَةً | فَعَادَتْ سَوَاءً دُورُهُ، وَمَقَابِرُهْ | |
إذا نَحْنُ زُرْنَاهُ أجَدّ لَنَا الأسَى | وَقَد كَانَ قَبلَ اليَوْمِ يُبهَجُ زَائِرُهْ | |
وَلم أنسَ وَحشَ القصرِ، إذ رِيعَ سرْبُهُ | وإذْ ذُعِرَتْ أطْلاَؤهُ وَجَآذِرُهْ | |
وإذْ صِيحَ فيهِ بالرّحِيلِ، فهُتّكَتْ | عَلى عَجَلٍ أسْتَارُهُ وَسَتَائِرُهْ | |
وَوَحْشَتُهُ، حَتّى كأنْ لَمْ يُقِمْ بِهِ | أنيسٌ، وَلمْ تَحْسُنْ لعَينٍ مَنَاظِرُهْ | |
كأَن لمْ تَبِتْ فيهِ الخِلاَفَةُ طَلْقَةً | بَشَاشَتُها، والمُلكُ يُشرِقُ زَاهرُهْ | |
وَلمْ تَجْمَعِ الدّنْيَا إلَيهِ بَهَاءَهَا | وَبَهجَتَها، والعيشُ غَضٌّ مكاسرُهْ | |
فأينَ الحِجابُ الصّعبُ، حَيثُ تَمَنّعَتْ | بِهَيْبَتِهَا أبْوَابُهُ، وَمَقاصِرُهْ | |
وأينَ عَمِيدُ النّاسِ في كلّ نَوْبَةٍ | تَنُوبُ، وَنَاهي الدّهرِ فيهِمْ وآمرُه | |
تَخَفّى لَهُ مُغْتَالُهُ، تَحتَ غِرّةٍ | وَأوْلَى لِمَنْ يَقاتلهُ أن يُجَاهِرُهْ | |
فَمَا قَاتَلَتْ عَنْهُ المَنَايَا جُنُودُهُ | وَلاَ دَافَعَتْ أمْلاَكُهُ وَذَخَائِرُهْ | |
وَلاَ نَصَرَ المُعتَزَّ مَنْ كَانَ يُرْتَجَى | لَهُ، وَعَزِيزُ القَوْمِ مَنْ عَزّ ناصِرُهْ | |
تَعَرّضَ ويب الدهر من دونِ فتحِهِ | وَغُيّبَ عَنهُ في خُرَاسَانَ، طاهِرُهْ | |
وَلَوْ عَاشَ مَيْتٌ، أوْ تَقَرّبَ نَازحٌ | لَدَارَتْ مِنَ المَكْرُوهِ ثَمّ دَوَائِرُهْ | |
وَلَوْ لعُبَيْدِ الله عَوْنٌ عَلَيْهِمُ | لَضَاقَتْ عَلَى وُرّادِ أمْرٍ مَصَادِرُهْ | |
حُلُومٌ أضَلّتْهَا الأمَاني، وَمُدّةٌ | تَنَاهَتْ، وَحَتفٌ أوْشَكتَهُ مَقَادِرُهْ | |
وَمُغْتَصَبٍ للقَتلِ لَمْ يُخْشَ رَهْطُهُ | وَلمْ تُحتَشَمْ أسْبَابُهُ وَأوَاصِرُهْ | |
صَرِيعٌ تَقَاضَاهُ السّيُوفُ حُشَاشَةً | يَجُودُ بها، والمَوْتُ حُمْرٌ أظافرُهْ | |
أُدافعُ عَنهُ باليَدَينِ، وَلَمْ يَكُنْ | ليَثْنِي الأعَادِي أعزَلُ اللّيلِ حاسرُهْ | |
وَلَوْ كَانَ سَيفي ساعةَ القتل في يدي | درَى القاتلُ العَجلانُ كيفَ أُساوِرُهْ | |
حَرَامٌ عليّ الرّاحُ، بَعْدَكَ، أوْ أرَى | دَمًا بدَمٍ يَجرِي عَلى الأرْضِ مائرُهْ | |
وَهَلْ أرْتَجِي أنْ يَطْلُبَ الدّمَ وَاترٌ | يَدَ الدّهْرِ، والمَوْتُورُ بالدّمِ وَاتِرُهْ | |
أكانَ وَليُّ العَهْدِ أضْمَرَ غَدْرَةً؟ | فَمِنْ عَجَبٍ أنْ وُلّيَ العَهدَ غادرُهْ | |
فلا مُلّيَ البَاقي تُرَاثَ الذي مَضَى | وَلاَ حَمَلَتْ ذاكَ الدّعَاءَ مَنَابِرُهْ | |
وَلاَ وَألَ المَشْكُوكُ فيهِ، وَلا نَجَا | من السّيفِ ناضِي السّيفِ غدرًا وَشاهرُهْ | |
لَنِعمَ الدّمُ المَسْفُوحُ، لَيلَةَ جَعفرٍ | هَرَقتُمْ، وَجُنحُ اللّيلِ سُودٌ دَيَاجِرُهْ | |
كأنّكُمْ لمْ تَعْلَمُوا مَنْ وَلِيُّهُ | وَنَاعيهِ تَحْتَ المُرْهَفَاتِ وَثَائِرُهْ | |
وإنّي لأرْجُو أنْ تُرَدّ أُمُورُكُمْ | إلى خَلَفٍ مِنْ شَخصِهِ لا يُغَادِرُهْ | |
مُقَلِّبُ آرَاءٍ تُخَافُ أنَاتُهُ | إذا الأخرَقُ العَجلانُ خيفتْ بَوَادرُهْ |
اجتزأ فيها البحتري بالمعاني الشائعة القريبة المنال ،ابتعد عن التعقيد وكان الأفضل عند من يفضلون سهولة المعاني، ووضوح الألفاظ، وكانت أيضا ألفاظه وليدة الاختبار البسيط.
من قوله في الحِكَم:
توَاضَعْ تَكُنْ كالنَّجْمِ لاح لِنَاظرِ | على صفحات الماء وَهْوَ رَفِيعُ | |
ولا تَكُ كالدُّخَانِ يَعْلُو بَنَفْسهِ | على طبقات الجوِّ وَهْوَ وَضِيعُ |
وقوله:
وما النَّاسُ إِلَّا واجِدٌ غَيْرُ مَالِكٍ | لِمَا يَبْتَغِي أَوْ مَالِكٌ غَيْرُ وَاجِدِ | |
وَلَمْ أَرَ أَمْثَالَ الرِّجَالِ تَفَاوَتَتْ | إِلَى الفَضْلِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ | |
وَلَنْ تَسْتَبِينَ الدَّهْرَ مَوْضِعَ نِعْمَةٍ | إذَا أَنتَ لَمْ تُدْلَلْ عَلَيْهَا بِحَاسِدِ |
وقال أيضا:
سَأَحْمِلُ نَفْسِي عِندَ كُلِّ مُلِمَّـةٍ | عَلَى مِثْلِ حَدِّ السَّـيْفِ أَخْلَصَهُ الهِنْدُ | |
لِيَعْلَمَ مَنْ هابَ السُّـرَى خَشْيَةَ الرَّدَى | بأنَّ قَضـاءَ اللهِ لَيْـسَ لَهُ رَدُّ | |
فإنْ عِشْتُ مَحْمودًا فَمِثْلِي بَغَى الغِنَى | لِيَكْسِبَ مَـالًا أوْ يُنَثَّ لَهُ حَمْدُ | |
وإن مِّتُّ لَمْ أَظْفَـرْ فَلَيْسَ عَلَى امْرِئٍ | غَـدَا طَالِبًا إِلَّا تَقَصِّـيهِ والجَهْدُ |
وله أيضا:
إذَا مَا الْجُرْحُ رُمَّ عَلَى فَسَادٍ | تَبَيَّـنَ فِيـهِ تَفْـرِيطُ الطَّبِيـبِ | |
رَزِيَّةُ هَـالِكٍ جَلَبَتْ رَزَايَـا | وخَطْبٌ بَاتَ يَكْشِفُ عَنْ خُطُوبِ | |
يُشَـقُّ الْجَيْبُ ثُمَّ يَجِيءُ أَمْرٌ | يُصَغَّـرُ فِيهِ تَشْقِيـقُ الْجُيُـوبِ |
يقول في مدح المتوكل:
{{بيت|
أكرمُ الناسِ شيمةً، وأتمُّ النا | سِ خَلقًا، وأكثرُ الناسِ رِفدا | |
وشبيهُ النبيِّ خَلقًا وخُلقًا | ونسيبُ النبيِّ جدًا فجدّا |
من قصائده في الربيع:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا | من الحسن حتى كاد أن يتكلما | |
وقد نبه النيروز في غسق الدجى | أوائل وردكن بالأمس نوما | |
يفتقها برد الند ى فكأنه | يبث حديثا كان قبل مكتما | |
فمن شجر رد الربيع لباسه | عليه كما نشرت وشيا منمما | |
أحل فأبدى للعيون بشاشة | وكان قذى للعين إذ كان محرما | |
ورق نسيم الريح حتى حسبته | يجيء بأنفاس الأحبة نعما |
أولع البحتري بمظاهر العمران ووصف القصور وما إلى ذلك. وقد أبدى في وصفه براعة في تخير التفاصيل الناتئة، ودقة في رسم تلك التفاصيل رسمًا حسيًا وانفعالًا نفسيًا شديدًا.
ومن قوله يصف بركة المتوكل:
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها | والآنسات إذا لاحت مغانيها | |
بحسبها أنها في فضل رتبتها | تعد واحدة والبحر ثانيها | |
ما بال دجلة كالغيرى تنافسها | في الحسن طورا وأطوارا تباهيها | |
تنصب فيها وفود الماء معجلة | كالخيل خارجة من حبل مجريها | |
كأنما الفضة البيضاء سائلة | من السبائك تجري في مجاريها | |
إذا علتها الصبا أبدت لها حبكا | مثل الجواشن مصقولا حواشيها | |
فحاجب الشمس أحيانا يضاحكها | وريق الغيث أحيانا يباكيها | |
إذا النجوم تراءت في جوانبها | ليلا حسبت سماء ركبت فيها | |
لا يبلغ السمك المحصور غايتها | لبعد ما بين قاصيها ودانيها | |
يعمن فيها بأوساط مجنحة | كالطير تنقض في جو خوافيها | |
لهن صحن رحيب في أسافلها | إذا انحططن ويهو في أعاليها | |
صور إلى صورة الدلفين يؤنسها | منه انزواء بعينيه يوازيها | |
محفوفة برياض لا تزال ترى | ريش الطواويس تحكيه ويحكيها | |
ودكتين كمثل الشعريين، غدت | إحداهما بإزا الأخرى تساميها | |
إذا مساعي أمير المؤمنين بدت | للواصفين فلا وصف يدانيها |
من الموضوعات التي شاعت في الأندلس وازدهرت كثيرًا شعر وصف الطبيعة وهذا موضوع في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي إذ وصف الشعراء صحراءهم وتفننوا في وصفها لكن هذا الوصف لم يتعد الجانب المادي وفي العصر الأموي والعباسي عندما انتقل العرب المسلمون إلى البلدان المفتوحة وارتقت حياتهم الاجتماعية أضافت على وصف الطبيعة وصف المظاهر المدنيَّة والحضارة وتفننوا، فمن ذلك فقد وصف الطبيعة عند الشعراء العباسيين أمثال النجدي والصنوبري وأبي تمام وأبي بكر النجدي الذي عاش في بيئة حلب ولكن ما الجديد الذي جاء به الأندلسيون بحيث أن هذا الموضوع أصبح من الأغراض والموضوعات التي عُرف بها أصل الأندلس.
كان البحتري ذا خيال صافٍ وذَوْقٍ سليم. وهو من اطبع شعراء العرب. ويرى أن الشعر لمح، ومذهبه فيه مذهب امرئ القيس. أما فن البحتري فيقوم على زخرف بديعي يأخذ به في اقتصاد وذوق، وعلى موسيقى ساحرة تغمر جميع شعره، وتأتي عن حسن اختيار الألفاظ والتراكيب التي لا يشوبها تعقيد ولا غرابة ولا خشونة بل تجري مؤتلفة في عناصرها وفي تسلسلها، موافقة للمعنى، تشتد في موقع الشدة وتلين في موقع اللين.
الحماسة للبحتري - أبو عبادة الوليد بن عبيد البحترى - تعد حماسة البحتري مصدرا مهما من مصادر ...
البلاغة, الأدب, الشعر والشعراء, اللغة العربية
718
---
محمد إبراهيم حور - أحمد محمد عبيد
---