ولد بوادي نخلة بالقرب من مكة المكرمة في الخامس من شهر ذي الحجة سنة 581 هـ، ومات رابع أيام شهر ذي القعدة بوباء حدث في مصر سنة 656هـ، نشأ وتلقى تعليمه بقوص بصعيد مصر وهي بلدة كانت عامرة زاهرة بالعلوم وليس في الديار المصرية وقتئذ بعد القاهرة أكثر منها عمراناً.
لما ظهر نبوغه وشاعريته التفت إليه الحكام بقوص فأسبغوا عليه النعماء وأسبغ عليهم القصائد. وطار ذكره في البلاد وإلى بني أيوب فخصوه بعينايتهم وخصهم بكثير من مدائحه. توثقت صلة بينه وبين الملك الصالح أيوب ويذكر أنه استصحبه معه في رحلاته إلى الشام وأرمينية وبلاد العرب. مات البهاء زهير في ذي القعدة 656 هـ.
يقول ابن خلكان في ترجمته:
من فضلاء عصره وأحسنهم نظما ونثرا وخطا ومن أكبرهم مروءة كان قد اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح نجم الدين أبي الفتح أيوب بن الملك الكامل بالديار المصرية وتوجه في خدمته إلى البلاد الشرقية وأقام بها إلى أن ملك الملك الصالح مدينة دمشق فانتقل إليها في خدمته وأقام كذلك إلى أن جرت الكائنة المشهورة على الملك الصالح وخرجت عنه في دمش وخانه عسكره وهو على نابلس وتفرق عنه وقبض عليه ابن عمه الملك الناصر داود صاحب الكرك واعتقله بقلعة الكرك فأقام بهاء الدين زهير المذكور بنابلس محافظة لصاحبه ولم يتصل بغيره ولم يزل على ذلك حتى خرج الملك الصالح وملك الديار المصرية وقدم إليها في خدمته وذلك في أواخر ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة. وكنت يومئذ مقيما بالقاهرة وأود لو اجتمعت به لما كنت أسمع عنه فلما وصل اجتمعت به ورأيته فوق ما سمعت عنه من مكارم الأخلاق وكثرة الرياضة ودماثة السجايا وكان متمكنا من صاحبه كبير القدر عنده لا يطلع على سره الخفي غيره ومع هذا كله فإنه كان لا يتوسط عنده إلا بالخير ونفع خلقا كثيرا بحسن وساطته وجميل سفارته. وأنشدني شيئا كثيرا وشعره كله لطيف وهو كما يقال السهل الممتنع وأجازني رواية ديوانه وهو كثير الوجود بأيدي الناس فلا حاجة إلى الإكثار من ذكر مقاطيعه. ثم حصل بمصر والقاهرة مرض عظيم لم يكد يسلم منه أحد وكان بهاء الدين المذكور ممن مسه ألم فأقام به أيام ثم توفي قبل المغرب يوم الأحد رابع ذي القعدة من السنة المذكورة. |
شعره كله لطيف وهو كما يقال السهل الممتنع، قال ابن حجة الحموي في شرح بديهيته المسمى خزانة الادب عند الكلام على السهولة:
مذهبي أن البهاء زهير قائد عنان هذا النوع وفارس ميدان |
وأورد له من شعره ثلاث صفحات شاهداً على ذلك.
وهو يأتي بهذه الأوزان الخفيفة ليطالعنا بقدرته الفنية في إخراج أوزان تنساب فيها النغمات العذبـة في جوها الموسيقي الحافل بالألحان الشجية فصارت بهذه الأوزان قصائده شعراً غنائياً جميلاً، وقد علق على هذه الأوزان مصطفى عبد الرزاق حين قال:
انتشرت في عهد البهاء زهير أوزان التواشيح الآتية من الأندلس وذلك لا بدّ أن يكون نبه الشعراء إلى فن من الألحان الشعرية جديد، فاهتدت الفطر الموسيقية إلى اختيار البحور اللطيفة والأوزان الموفورة الحظ من الموسيقى ومن التأثير، وهذا شأن البهاء زهير، فإننا نجده في غير شعر المديح قلما يركن إلى غيره من الأوزان الخفيفة. |
نهاك عن الغواية ما نهاكا | وذقت من الصبابة ما كفاكا | |
وطال سراك في ليلِ التصابي | وقد أصبحت لم تحمد سراكا | |
فلا تجزع لحادثة الليالي | وقل لي إن جزعت فما عساكا | |
وكـيف تلوم حادثة وفيها | تبين من أحبك أو قلاكا | |
بروحي من تذوب عليه روحي | وذق يا قلب ما صنعت يداكا | |
لعمري كنت عن هذا غنيا | ولـم تعرف ضلالك من هداكا | |
ضنيت من الهوى وشقيت منه | وأنت تجيب كل هوى دعاكا | |
فدع يا قلب ما قد كنت فيه | ألست ترى حبيبك قد جفاكا | |
لقد بلغت به روحي التراقي | وقـد نظرت به عيني الهلاكا | |
فيا من غاب عني وهو روحي | وكيف أطيق من روحي انفكاكا | |
حبيبي كيف حتى غبت عني | أتعلم أن لي أحداً سواكا | |
أراك هجرتني هجراً طويلا | وما عودتني من قبل ذاكا | |
عهدتك لا تطيق الصبر عني | وتعصي في ودادي من نهاكا | |
فكيف تغيرت تلك السجايا | ومن هذا الذي عني ثناكا | |
فلا والله ما حاولت عذراً | فكل الناس يعذر ما خلاكا | |
وما فارقتني طوعاً ولكن | دهاك من المنية ما دهاكا | |
لقد حكمت بفرقتنا الليالي | ولم يك عن رضاي ولا رضاكا | |
فليتك لو بقيت لضعف حالي | وكان الناس كلهم فداكا | |
يعز علي حين أُدير عيني | أفتش في مكانك لا أراكا | |
ولم أر في سواك ولا أراه | شمائلك المليحة أو حلاكا | |
ختمت علي ودادك في ضميري | وليس يزال مختوماً هناكا | |
لقد عجلت عليك يد المنايا | وما استوفيت حظك من صباكا | |
فوا أسفي لجسمك كيف يبلى | ويذهب بعد بهجته سناكا | |
ومالي أدعـي أني وفيّ | ولست مشاركاً لك في بلاكا | |
تموت وما أموت عليك حزناً | وحق هواك خنتك في هواكا | |
ويا خجلي إذا قالوا محبّ | ولم أنفعك في خطبٍ أتاكا | |
أرى الباكين معي كثيرا | وليس كمن بكى من قد تباكى | |
فيا من قد نوى سفراً بعيداً | متى قل لي رجوعك من نواكا | |
جزاك الله عني كل خيرٍ | وأعلم أنه عني جزاكا | |
فيا قبر الحبيب وددت أني | حملت ولو على عيني ثراكا | |
سقاك الغيث هتاناً وإلا | فحسبك من دموعي ما سقاكا | |
ولا زال السلام عليك مني | يرف مع النسيم على ذراكا |
يقول:
مضى الشباب وولى ما انتفعت به | وليته فارط يرجى تلافيه | |
أوليت لي عملا فيه أسر به | أوليته ما جرى لي ما جرى فيه | |
فاليوم أبكي على ما فاتني أسفا | وهل يفيد بكائي حين أبكيه | |
واحسرتاه لعمر ضاع أكثره | والويل إن كان باقيه كماضيه |
ويقول:
إياك يدري حديثا بيننا أحد | فهم يقولون للحيطان آذان |
ويقول:
لا تعتب الدهر في حال رماك به | إن استرد فقدما طالما وهبا | |
حاسب زمانك في حالي تصرفه | تجده أعطاك أضعاف الذي سلبا | |
والله قد جعل الأيام دائرة | فلا ترى راحة تبقى ولا تعبا | |
ورأس مالك وهي الروح قد سلمت | لا تأسفن لشيء بعدها ذهبا | |
ما كنت أول ممدوح بحادثة | كذا مضى الدهر لا بدعا ولا كذبا | |
ورب مال نما من بعد مرزئة | أما ترى الشمع بعد القط ملتهبا |
ويقول:
ألا إن عندي عاشق السمر غالط | وأن الملاح البيض أبهى وأبهج | |
وإني لأهوى كل بيضاء غادة | يضيء بها وجه وثغر مفلج | |
وحسبي أني أتبع الحق في الهوى | ولا شك أن الحق أبيض أبلج |
ويقول:
توق الأذى من رذل وساقط | فكم قد تأذى بالأراذل سيد | |
ألم ترى أن الليث تؤذيه بقة | ويأخذ من حد المهند مبرد |
ويقول:
يا سائلي عما تجدد حالي | الحال لم ينقص ولم يزد | |
وكما علمت فإنني رجل | أفنى ولا أشكو إلى أحد |
ويقول:
لما التحى وتبدلت | منه السعود له نحوسا | |
أبديت لما راح يحـ | ـلق خده معنى نفيسا | |
وأذعت عنه بأنه | لم يقصد القصد الخسيسا | |
لكن غدا وعذاره | خضر فساق إليه موسى |
ويقول:
ما أصعب الحاجة للناس | فالغنم منهم راحة الياس | |
لم يبق في الناس مواس لمن | يظهر شكواه ولا آس | |
وبعد ذا مالك عنهم غنى | لا بد للناس من الناس |
ويقول:
قل الثقات فلا تركن إلى أحد | فأسعد الناس من لا يعرف الناس | |
لم ألق لي صاحبا في الله أصحبه | وقد رأيت وقد جربت أجناسا |
ويقول:
فيا نسيم الصبا أنت الرسول له | والله يعلم إني منك غيران | |
بلغ سلامي إلى من لا أكلمه | إني على ذلك الغضبان غضبان | |
لا يا رسولي لا تذكر له غضبي | فذاك مني تمويه وبهتان | |
وكيف اغضب لا والله لا غضب | إني لما رام من قتلي لفرحان | |
يلذ لي كل شيء منه يؤلمني | إن الإساءة عندي منه إحسان | |
استخدم الريح في حمل السلام لكم | كأنما أنا في عصري سليمان |
لم يكن تغير الملك الصالح عليه لريبة أو لسوء ظن بل لغفلة غفلها - وجل من لا يغفل ولا يسهو - وكان الملك الصالح كثير التخيل والغضب والمؤخذة حتى على الذنب الصغير والمعاقبة على الوهم لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة.
والغفلة التي غفلها البهاء زهير بل الزلة التي زلها هو أنه كتب عن الملك الصالح كتاباً إلى الملك الناصر داود صاحب الكرك، وأدخل الكتاب إلى الملك الصالح ليقره ويوقعه حسب العادة فلما وقف عليه الملك الصالح كتب بخطه بين الاسطر «أنت تعرف قلة عقل ابن عمي وانهيحب من يصله ويعطيه من يده فأكتب له غير هذا الكتاب ما يعجبه».
وبعث بالكتاب إلى البهاء زهير ليغيره وكان البهاء مشغولاً فاعطاه لأحد من معيته ليختمه ويجهزه إلى الملك الناصر داود ولم يتأمل ما فيه فذهب به الرسول، فأستبطا الملك الصالح عودة الكتاب اليه ثانياً فسأل عنه البهاء فقال له: أرسلته، فقال له: ألم تقف على ما كتبه بخطي بين الاسطر؟ فقال البهاء: ومن يجسر أن يقف على ما يكتبه الملك لأبن عمه.
فقامت قيامة الملك وبعث من يرد الرسول فلم يدركه حيث وصل إلى الملك الناصر داود فعظم عليه ما فيه وتألم منه وكتب جوابه للملك الصالح يعتب عليه فيه العتب المؤلم ويقول له فيه والله ما بي ما يصدر منك في حقي وإنما بي أطلاع كتابك على مثل هذا فعز ذلك على الملك الصالح فغضب على البهاء زهير.
ديوان البهاء زهير-ت أبو الفضل إبراهيم ...
320
1982
محمد أبو الفضل إبراهيم - محمد طاهر الجبلاوي
---