كان الراعي النميري أكثر من مجرد شاعر، فقد كان راوية، وموسوعة للكثير من الشعر الجاهلي، كان مبدعًا في وصفه، دقيقًا في تصويره، اتخذ من النهج القديم مسلكًا في أشعاره؛ لتأثره بما يحفظ من فيوض الشعر الجاهلي، وتنوعت فنونه الشعرية بين الفخر، والمدح، والحماسة، والهجاء، والوصف وبخاصة وصف الإبل، وله قليل غزل.
اعتبره ابن سلام الجمحي فحلًا من فحول الشعراء الإسلاميين، وصنفه في الصدارة في الطبقة الأولى من كتابه طبقات فحول الشعراء، لكثرة شعره ومُطوّلاته، وبراعته الفنية، وجودته.
قصة الراعي النميري وجرير :-
يندرج الهجاء تحت العنف الشعري، ويُتعمّد به إيقاع أقصى أنواع الأذى النفسي والاجتماعي بالخصم، ولا مانع من انتهاك هويته وتشويه سيرته، فيترك أثرًا يفضي إلى القتل الرمزي، ويُورث كمَدًا، ويُلحق عارًا قد لا يُمحى أثره عبر التاريخ، كل ذلك تفعله قوة الكلمة في قصيدة هجاء، وهذا تمامًا ما حدث مع الراعي النميري عندما هجاه جرير بقصيدة أسماها الدامغة، دمغه بها كَمَدًا وقهرًا، فلم يستطع الراعي أن يتخلص من وَصْمتها ما بَقي، وقيل: إنه مات قهرًا بسببها.
كان ذلك جرّاء انخراطه في حرب المناظرات الشعرية والهجاء التي دامت لسنوات بين الفرزدق وجرير متحيزًا للفرزدق فقال:
يا صــاحبي دنا الـرواح فسيرا..
غلب الفرزدق في الهجــاء جريرا
وهكذا، جنّ جنون جرير، وقرر الانتقام من الراعي بوابلٍ من أبيات الهجاء بقصيدة بلغت سبعًا وتسعين بيتًا، أدرك فيها منتهى الغاية من الهجاء، وأنشدها على الملأ في سوق المربد في مجلس الراعي والفرزدق، ومن أقسى أبياتها :
فغض الطَّرْفَ إنَّـك من نميـر..
فلا كعبـاً بلغت ولا كِــلابا
وفيه صوّر جرير الانتساب لقبيلة نمير كأنه عار مُشين، فيأمر الراعي بأن يُنكس جبينه خجلًا لانتسابه لتلك القبيلة، التي لم تستطع أن تضاهي منزلة قبيلة كعب – قبيلة والدته – ولا كلاب – قبيلته، فاشتدّ وقع تلك القصيدة، وخاصة هذا البيت على قبيلة نمير بأكملها، حتى صاروا يتحرجون من الانتساب لها، أو يغيرون قبيلتهم.
وفاته:-
توفي الراعي النميري سنة 90 ھ، واختلفت الروايات حول وفاته، فقيل: إن بني الهجيم قتلوه، وقيل: إنه مات قهرًا وكمَدًا بسبب هجاء جرير له بقصيدته الدامغة.
هذه بعض من أبيات تلك القصيدة الشهيرة التي عقدت لسان الراعي النميري من قوة هجائها، بعدما كان من أفحل شعراء العصر الأموي، يقول جرير :