صلاح الدين زعبلاوي

صلاح الدين زعبلاوي
  • الدولة سوريا

اخلاصه في مهنته:

عمل الزعبلاوي مدرسًا للتاريخ والجغرافيا ومديراً لكثير من ثانويات دمشق في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. كان مخلصاً في تدريسه محباً لمهنته. لم يكن يكتفي بالكتاب المدرسي بل كان -وعلى عادته- يستقصي المادة العلمية من كل مرجع استطاع جاهدًا الحصول عليه، إذْ كانت المراجع آنذاك نادرة في كثير من الاختصاصات. كان يسرد كل المعلومات قبل أن يُمْلِيها على الطلاب بطريقة جذابة ومشوّقة تستحوذ على انتباه الطالب وتشغفه بالمادة. قال في ترجمة حياته (ص 296 ): «وقد اعتدت أن أعكف على إعداد الدرس وأصرّف الفكر فيه وألتمسه من مظانه فلا أكتفي بكتاب مدرسي أو أقتصر على مرجع فرد. بل أستفرغ في ذلك وسعي، وأبذل فيه جهد المستطيع فأرتاد المؤلفات المفصّلة والمصادر المطوّلة حيثما وجدت. وأقتنيها لتكون عُدتي في الاطلاع وأداتي في التبسّط، بل لتكون ذريعتي إلى تدبّر الرأي عن بصيرة واتخاذ المذهب عن حجة. هذا ما جعل طلابه محبين أوفياء حيثما لاقوه إلى آخر يوم في حياته. فكنت أصاحبه في كثير من الأوقات وأرى كيف كانوا يهرعون لإيقافه وإبداء كل استعداد لأداء أية خدمة، بل كانوا يقبّلونه أحيانا، ويذكّرونه بمواقف جليلة كان قد ضحّى من أجلهم فيها. كانوا يذكرون تلك الأيام بشوق وحنين.

كان والدي شخصية معروفة بين أهل الثقافة والعلم في دمشق. لا أذكره دخل مدرسة من مدارسنا أنا وإخوتي ونحن صغار في الإعدادية أو الثانوية إلاّ وبادره كل أساتذة المدرسة بالسلام والترحاب والاحترام، وهم يحملون في قلوبهم ذكرى طيبة عنه في أيامهم الماضية. أذكر حادثة طريفة أخرى، ذلك أنه دخلَ يوماً ما إحدى صيدليات دمشق ليسأل عن موضوع كان يتعلق بدراسة شقيقتي الصيدلانية آنذاك. فلمّا ذكر اسمها أمام صاحب الصيدلية، بادرَ الأخير وكله حنينٌ وشوقٌ ورجاءٌ ليسأل والدي إن كان على صلة بشخص يدعى «صلاح الدين الزعبلاوي». ففي بادئ الأمر ظنّ والدي أن ذاك الرجل كان يكلّمه مازحاً. وما أن أطلعه والدي على الحقيقة حتى أخذ يقبّل يديه، وعيناه تدمعان. وتبيّن له بعد ذلك أنّ صاحب الصيدلية هذا كان في الماضي تلميذاً يتيماً وهو صغير، عندما كان والدي مديراً «لميتم سيد قريش» في دمشق. وقد كان المربي الزعبلاوي يرعى هؤلاء الأيتام وكأنه أب لهمٌ بل أكثر من أب...؛ يحفّهم بالعناية ويدافع عنهم ويعدل بينهم ويشجعهم ويكافئهم، ويسعى جاهداً إلى تعويض ما افتقدوه من غياب أحد الوالدين أو كليهما. مازال اسم والدي مطبوعاً في مخيّلة ذاك الطالب إلاّ أنه نسي صورته، حيث كان غلاماً يافعاً في مقتبل عمره. كان موقفاً عاطفياً مباغتاً تقشعر له الجلود وتلين له أقسى القلوب.

 

نظرته للحياة وخلقه:

كان صلاح الدين الزعبلاوي مُدركاً لمعنى الحياة ومآلها منذ شبابه. كان ينظر إليها نظرة دينية عميقة بحتة. فهو على يقين من أن الحياة خُلقت لتكون دار عمل ودأب وإنتاج. لم تجذبه ملذاتها ولم تسترعِه زخارفها، بل ترفّع عن كل ذلك متجنبًا أي انزلاق قد يهوي به إلى مستنقعاتها. قال في ترجمة حياته (ص 288 ): «ولست أدري ما الذي أدّاني إلى مثل هذه الرؤية وأصارني إلى نظرة الجدّ في الحياة. لا أقف عند زينتها ولا أَحْفِلُ بزخرف يشغل الناظر عن لبّها ودلالاتها، لكني أشعر أني ورثت هذا الخط عن والديّ فسرى بي كل مسرى، أعقل الحياة وأؤمن بها، وأصطفيها هذا الاصطفاء. أسعى إلى هيكلها بفروضها وقربانها. أراها أصيلة في ذاتها، عريقة في جوهرها. سواء عندي: برزت في كأس من ذهب أو إناء من تراب، أستحبها على هذا الوجه، وأرى أنها تستحق الجهد والبذل. أريدها حياة العفة والطهر، حياة لاتنحدر انحدار دنياها، بل تستعلي استعلاء حقيقتها، لا تجمد في حق، ولا تذوب في باطل.

وعلى الرغم من اتّسام والدي بالجدية، فإنه لم يجد تناقضاً بين الجدية والفكاهة. فلو جالسته لخبرت روح الدعابة عنده. فطالما شاطرنا المزاح والابتسامة الجميلة، بل بادرنا إليها. لم نكن نرهبه، بل كنّا نحترمه. كان أخاً وصديقاً لنا. نبادله الحديث المسلّي والفَكِه، ولا نخشى من تصرف أو عبارة قد تصدر منا خطأّ. فلم يكن يتبنى نظرة الأب السُلطوي المتعالي المتكبَر الذي يقذف الرُّعبَ في نفوس أولاده، بل كان صديقاً نصوحاً مخلصاً ودوداً. كان يكتفي بتقديم النصح لنا ولم يكن يُكْرِهنا على مالا نرجوه.

شَغَلَ الأستاذ الزعبلاوي (رحمه الله) مناصب تنفيذية مختلفة. ففي بداية الستينيات من القرن الماضي عُيّن مديراً لتربية درعا، ومن ثم أصبح مديراً لتربية دمشق، ثم مديراً للكتب المدرسية في دمشق. أُوكلت له في كل هذه المناصب وغيرها مهمات ومسئوليات عدة. كان يحترم الناس عامة، وينهى عن تعيير الناس أو السخرية. فالناس عنده سواسية. فقد كان يردّد ما جاء في الحديث الشريف: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأشار بأصابعه إلى صدره»، بل كان في حكمه في كثير من المواقف محباً ومناصراً للفقراء ضد بعض الأغنياء المعتدين على حقوق غيرهم. كان يعتقد أن المجتمع الحضاري هو المجتمع الذي يسوده العدل والمساواة. كان يمقُتُ الظلم إلى أبعد الحدود، بل يتصدّى له حيثما حلّ، وبأي وجه كان. قال في ترجمة حياته (ص 298 ): «وكنت حرباً على المحاباة محاباة ذوي الشراء وأصحاب الجاه، وأهل الزلفة والحظوة. فلا ذريعة تُرعى ولا وسيلة تشفع، فإذا مضيت في إعمال قانون أو إجراء قاعدة فعلى ذوي اليسار قبل ذوي الحاجة والإعسار... أمضي بالعدالة حكمي، فلا تحامل ولا غضّ. فالعدل أسُّ كل نظام وقاعدة كل شرع. وكيف أظلم الفقراء وقد جاء في الحديث: (اتخذوا عند الفقراء أياديَ فإن لهم دولة يوم القيامة)... أو ليس تقويم الإنسان بغير كفايته الخلقية والعقلية والعلمية حيفاً، ووضعه غير الموضع الذي يُقدر به ويختبر فكره ويجرّب خلقه عبثاً وإثماً؟»

أذكر أن أحد الأقرباء في العائلة ذهب ليقابله لدى إدارته مديرية تربية دمشق ليرجوه أن يسعى لتوظيفه أستاذاً وكيلاً في إحدى المدارس، إلا أن والدي ردّ عليه قائلا: «بكل سرور، ولكن عليك الانتظار فالأولوية لمن حصل على معدل درجات عال، فإذا بلغنا حد درجاتك عيّنّاك. فالعدل لديه لا ينحرف عن مساره الأخلاقي فهو جار حتى على أقاربه.

وهكذا فقد اتّسم الزعبلاوي بالاستقامة (أرجو له من الله الرحمن الرحيم خالص الثواب وحُسن الجزاء). فلا يجري لسانه بغير الحق، فإنك لتتمثل قلبه في لسانه. كان صادقاً مع نفسه ومع الآخرين. لا مجال لديه للرياء والتملق وإرضاء رغبات الناس على حساب مبادئه. طالما سمعت منه عبارة : «أيغضب الله، أم يغضب فلان؟». فبالنسبة له «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». لذا فقد كان رجلاً شفافاً يقول ما يعتقده صواباّ دون الاكتراث بمواقف الآخرين الذين كانوا ينتقدون فيه هذا الطبع الذي فُطر عليه، ويطالبونه بما يدّعونَ أنه «مزيد من التعاون والمرونة والتيسير». قال في ترجمة حياته (ص 291 ): «فقد كنت في توافق ومواءمة بين ما أفكر فيه وأتخذه خلقاً، وبين ما أقول به وأمضي في تحقيقه. وكنت حريصا أن أدفع عني كل ما يُفسد عليّ هذه السكينة، ويُقلق مني هذا التوازن. وما أجملَ أن يسوّي المرء بَينَ قلبه ولسانه، وبين فكره ونهجه. ذلك ما سوّغ لي أن أطمح في أن أكون قدوة وأتطلع أن أجعل من نفسي مربّياً. وقال في عزة النفس (ص 297 ): «وما أجدَرَ العربيَّ المؤمنَ أن يكون إنسانَ العزةِ والقمةِ والغايةِ لا إنسان المهانةِ والمطيّةِ والوسيلةِ».

 

وفاؤه لأسرته:

كان المربي الزعبلاوي وفياً لأسرته. استمرت عطاءاته وتضحياته لها نحو نصف قرن. وهبها كثيراً من الحب وأولاها كثيراً من الرعاية، واستطاع أن يخرّجَ منها أفراداً مثقفين وإنْ شاء الله مخلصين لله أولاً وللناس من حولهم ثانياً. لقد كان مثال الأب الرءوف العطوف ورب الأسرة القوي النشيط. كان يتبنى المبدأ القائل : «سيد القوم خادمهم». عانى خشونة الحياة لدى تقاعده وبلوغه الستين. إلاّ أنه لم ييأس، وكيف يقنط وكان مدرسةً في الأمل والرجاء والصبر، بل التمس لنفسه أعمالاً يسعفه أجرها في تلبية حاجياتنا حتى لو كان هذا زهيداً. استطاع الملاءمة بين اجتهاده على المطالعة والتأليف وبين السعي وراء كسب العيش الحلال. قال في ترجمة حياته (ص 301 ): «وهكذا كان قصاراي أن أوفق بين وجهتين: طلب العلم لإحكام التأليف، والسعي على العيال لكسب ما يجزي من المال، فلا أقعد عن واحدة منهما ولا أكسل وأعتقد أني جهدت في ذلك جهدي فأسعفني الله ببلوغ القصد، وما أضل سعيي ولا كَذَبَ رجائي».

 

دينه وتقواه:

لم يكن الزعبلاوي في حياته محباً لجمع المال أو التباهي به. فالمال بالنسبة له ليس غاية بذاته بل وسيلة يحتاج إليها الإنسانُ لتيسير أموره المعيشية على نحو يرضي الله عزَّ وجلّ. لاقته المنيّة ولم يكن في جعبته أكثر مما يسد نفقات مراسم دفنه. والأمر الذي يواسينا في فقده هو أنه أمضى الحقبة الأخيرة من حياته يجود في سبيلين خيريين. فقد ألهمه الله الإغداق في دفع الصدقات (اللهم تقبّلها منه) والإكثار من قراءة القرآن. أما عن الصدقات، فلم يكن ينتظر الفقير ليأتي بنفسه ويرجوه بذلّا، بل كان هو الذي يتبعه أينما ألفاه. فما ردّ رجاءَ فقير، ولا خَذل أمل محتاج. ليس هناك من شيء كان يُبهجه كرسم ابتسامة جميلة على وجه محتاج. أمّا عن قراءته القرآن الكريم، فقد اعتاد أن يقرأ ما تيسّر له منه على صعيد يومي، حيث وَجَدَ فيه الأنس والسكينة والطمأنينة، فغدا القرآن صاحبه الأنيس الذي طالما واساه وقد أثقله المرض قابعًا على فراشه. قرأ بعض صفحاته يوم الجمعة قبل يوم واحد من وفاته. توفّي والقرآن على الوسادة فوق رأسه وكأنّه يعيده. كان مشهدًا مُؤثّرًا، جميلاً وكئيبًا معًا، تجزع له النفوس، وترقُّ له القلوب.

عُرف صلاح الدين الزعبلاوي خلال حياته بتقواه وانقطاعه إلى العبادة. كُنّا نشهده وهو يُصلّي جهرًا وله صوت عذب فريد يزيد من خشوعه في صلاته. كُنا نتمنى دائماً لو يختار الآيات الطوال في قراءته حتى يتسنّى لنا سماع صوته الحنون أطول وقت ممكن. كان دائما يحرص أشدَّ الحرص ألاّ تفوته أية صلاة. وهبه الله الجسم الرشيق فاستمر في مقدرته على الركوع في الصلاة إلى نحو السابعة والثمانين، وكان يفخر بذلك، إلى أن قَدّرَ الله بأن صدمته سيارة فخرّ على ركبتيه. ومنذ ذلك الحادث اضطُرّ آسفاً للصلاة جالسًا. كان كثير الدعاء والتضرّع إلى الله وهو يختم صلاته. كما كان مثابراً على صيامه. استطاع صيام آخر رمضان شهده في حياته. وكان يصطحبنا لزيارة مقابر ذويه بعد صلاة العيد بالرغم من وعورة الطريق المؤدّية إليها. وقد كان آخر زيارة قام بها هي بعد صلاة عيد الفطر السابق لوفاته.

كان الزعبلاوي ورعاً منذ شبابه. عاش حياة عِفَّة... وطُهْر.... على أنه بالرغم من ورعه كان في الوقت نفسه من أنصار الوسطية في الإسلام. فلم يكن يتفق مع بعض وجهات نظر دينية تُغالي في تطبيق الأحكام الشرعية إلى حدود قد تنفّر البعض من الالتزام بالدين الإسلامي.

أصابه خلال السنتين الأخيرتين من عمره، أو يزيد على ذلك، شئٌ من النسيان. فكان ينسى أحياناً إن كان قد قام بصلاة وقت ما أم لم يقم، مما كان يضطرَه إلى إعادة بعض الصلوات. وكان يتناول أحيانا أدوية منشطة للذّاكرة ومعالجة للنسيان وافته المنيّة عن عمر يناهز التسعين عاماً.

صلاح الدين زعبلاوي

الكتب 1

معجم أخطاء الكتّاب

معجم أخطاء الكتّاب

معجم أخطاء الكتّاب_صلاح الدين زعبلاوي ...

الأقسام: النحو, أصول النحو, اللغة العربية

الناشر: دار الثقافة والتراث

عدد الصفحات: 816

سنة النشر: 2006م

المحقق: محمد مكي الحسني_مروان البواب

المترجم: ---