انتقل والده بأهله من كفر طاب بين حلب والمعرة إلى دمشق بسبب هجوم الفرنجة عليها، ثم ذهب إلى حماة واستقر فيها، وتولى قضاء القضاة ونظر أوقاف الخليفة العباسي الناصر لدين الله (575هـ/622م) وأوقاف الملك المنصور الأيوبي (587هـ/617م) صاحب حماة. وفي دمشق ولد ابنه عبد العزيز، ونشأ في حماة، فتلقى العلم عن أبيه، وكان عالماً خطيباً وكاتباً مترسلاً وشاعراً مطبوعاً, ثم رحل به أبوه إلى بغداد وغيرها، فأسمعه الحديث الشريف والفقه على أعلام عصره بعد إقرائه القرآن الكريم بالروايات، وأشغله باللغة والأدب. وطاف عبد العزيز بلاد الشام ومصر لأخذ العلم وإجازات الشيوخ، وحدّث بدمشق وحماة والقاهرة وبعلبك، واستقر في حماة قاضياً للقضاة ووزيراً لملوكها، فلقي فيها الإقبال والقبول، ونبه شأنه وذاع صيته في الآفاق، فقصده طلبة العلم للإفادة والإجازة.
كان شرف الدين الأنصاري صدراً كبيراً، ونبيلاً معظماً، وافر الحرمة كبير القدر، ذا سمت ووقار وأخلاق حسنة ذكياً واسع المعرفة بارعاً في العلم والأدب، له محفوظات كثيرة، ونظم فائق وترسل بديع، وأصالة في الرأي مع الدين المتين ولين الجانب وحسن الحاضرة والبساطة والإفضال على سائر من يعرفه والتكرم على من يقصده.
فروى عنه العلماء، واقتدى به الأدباء، وظل في منزلة عالية، يعتمد عليه ملوك حماة في حكمهم، ويستشيرونه في أمورهم ويرسلونه في مهماتهم إلى الخليفة في بغداد وإلى ملوك الأقاليم حتى وفاته.
لشيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري شعر كثير، وقد أسقط أشياء لم يكن راضياً عنها قبل صنع ديوانه، وهو يتضمن موضوعات الشعر المعروفة، ويغلب عليه مدح ملوك حماة الأيوبيين في مناسباتهم، ويظهر فيه صدى أحداث عصره وكثر فيه الغزل والمطارحات إلى جانب المدح النبوي والزهد الذي حمل استغفاراً وإنابة عما قاله في غزله، ودعوى إلى الإعراض عن الدنيا وزخارفها.
اتبع الشرف الأنصاري في شعره أساليب مختلفة مثل متابعة القدماء والاحتفاء بفنون البديع، لكنه انفرد في معظم شعره بطريقة، عرف بها واشتهر، وهي الرقة والانسجام والاعتماد على التورية، فصار صاحب مذهب شعري، أطلق عليه القدماء مذهب التورية والانسجام، تابعه فيه الشعراء. وهو يقوم على تخيّر الألفاظ الرقيقة ذات الجرس الحسن مع خفة الوزن واصطناع محاسن البديع بأسلوب ذاتي رشيق يصدر عن طبع سليم، ويبتعد عن الإغراب والتكلف، فكان شعره يُنشد في حلقات ذكر المتصوفة، ويُغنى في مجالس الطرب لذلك نال الشرف الأنصاري مكانة شعرية كبيرة في عصره، وأثنى عليه أهل الأدب، قال عنه صلاح الدين الصفدي: «لا أعرف في شعراء الشام بعد الخمس مئة وقبلها من نظم أحسن من شرف الدين ولا أجزل ولا أفصح ولا أسرى ولا أكثر، وما رأيت له شيئاً إلا وعلقته لما فيه من النكت والتوريات الفائقة والقوافي المتمكنة والتركيب العذب واللفظ الفصيح والمعنى البليغ».
وللشرف الأنصاري إلى جانب ديوانه المطبوع كتاب «نظرة المعشوق إلى وجه المشوق» ومنظومة «تذكار الواجد بأخبار الوالد»، وذكر أن له ديواناً في لزوم مالا يلزم، يأتي في مجلد كبير.
من شعره الدال على مذهبه في التورية والانسجام قوله:
رفقاً بروحي فهي لـــكْ
وعلى السخيّ بما ملكْ
أفضل بحق من اصطـفا
ك على الملاح وفضلك
وكأن ربك في الجمــــا
ل على اقتراحي مثّلـك
أحظاك منه بمنصـــبٍ
ســوّاك فيه وعدلـك
إنـي أغـــار إذا الأرا
ك دنا إليــك فقبلـك
ويروعني واشـي النسيـ
م إ ذا ثنــاك وميّلـك
ما أقبح الصبر الجمـيـ
ل بعـاشقيـك وأجمـلك
المختار من إلزام الضروب بالتزام المندوب_شرف الدين عبدالعزيز محمد الأنصاري ...
175
2008م
حسن محمد عبدالهادي
---