فضيلة الشيخ المقرئ الدكتور عباس المصري
[1364هـ / 1945م - 1425هـ / 2004م]
ترجم الإمامُ البخاري لوالده إسماعيل رحمهما الله فقال: "سمعَ أبي من مالك بن أنس، ورأى حمادَ بنَ زيد، وصافح ابنَ المُبارك بكلتا يديه".
ولك أن تتأمَّل طويلاً في قوله: "ورأى حمادَ بنَ زيد، وصافح ابنَ المبارك بكلتا يديه"، لقد كان البخاري رحمه الله قادرًا على أن يَسرِدَ شيئًا مطوَّلاً من مناقب والده، وهي كثيرة؛ فقد طلب والدُه العلم وتضلَّع منه، حتى إنَّ المترجمين له ليُخبِرون أنه استوت له تجارة عريضة ذات ربحٍ دارٍّ وفيرٍ أقسم على أنه جميعه من حلال خالص ليس فيه أدنى شبهة، فإنه لما حضرته الوفاة دعا ابنه الإمام البخاري، وقال له: "يا بنيَّ، لقد تركتُ لك ألف ألف درهم - يعني مليون - ما أعلم درهمًا فيه شبهة"، ومثل هذا لا يستقيم إلا لمن تعلَّم العلم حتى جمع في قلبه شيئًا منه كثيرًا، لكن البخاري وهو ينتقي لوالده أفضلَ المناقب يَختصر ترجمته - حسبما يَقتضيه منهجه في التاريخ الكبير - فيقتصر على هؤلاء الكلمات:
" سمع أبي من مالك بن أنس...
ورأى حماد بن زيد...
وصافح ابن المبارك بكلتا يديه".
فقط، وهو شرفٌ في نظر أمير المؤمنين الإمام البخاري، فما بالك بمَن دونه؟!
كنتُ وأنا أعدُّ هذه القطوفَ عن حياة العلماء والشيوخ الذين عرفتُهم أقدِّم رجلاً وأؤخِّر أخرى في تضمينها ترجمةً لفضيلة شيخنا الدكتور المُقرئ عباس المصري رحمه الله تعالى؛ ذلك أني عرفتُ الرجلَ الكبيرَ في مرحلة متأخِّرة جدًّا من حياته المباركة، في لقاء عابرٍ جمعني به لدقائق، وسرعان ما غادَرَ لتمضي أيام بعد هذا اللقاء فيقرع أسماعَنا نبأ وفاتِه، وأنا بعدُ لا أقدِر الرجل قدرَه ولا أعرف حقه العلميَّ عن يقين، وما كان هنالك إلا حدسٌ وتخمينٌ من المُستمِع الشاب في المتحدّث الكبير أنه من العلماء؛ أدرك ذلك صاحبُنا الشابُّ بما خَبرَه من سمت أولى العلم والإقراء، فلقد كان الشيخ رحمه الله باديَ الصلاح، ظاهرَ الخشوع، واضحَ التواضُع، كثيرَ الذِّكر، تلوح في وجهه وروحه أماراتُ التُّقى وعلاماتُ الإحسان.
لقد شجَّعتني الكلماتُ التي قدمتها عن ترجمة الإمام البخاري لوالده، ودفعتني إلى كتابة هذه السطور عن الشيخ رحمه الله، وسوَّغ لي ذلك، أني سمعتُ الشيخ يتحدث بكلام الخير، ورأيته، وصافحته، وجالسته، وحياني، وحييتُه، رحمه الله رحمة واسعةً، فكانت تلك القطوف من حياته الزاهرة:
ولد "أبو محمد عباس مصطفى أنور إبراهيم المصري" بالقاهرة في 18 / شعبان / 1364هـ - الموافق 27 / 7 / 1945 م، وعاشَ حياةً عادية لا يميِّزه فيها شيء عن غيره حتى بلغ الثلاثين من عمره، وفيها اشتعلت جذوة نشاطه الدِّيني فأقبل على كتاب الله تعالى وعكف عليه قراءة وحفظًا وإتقانًا فأنعم الله به عليه، وكان بعد إتمام الحفظ يفرِّغ من يومه أوقاتًا كثيرة لتثبيت الحفظ حتى صار من الحافظين المتقنين لكتاب الله.
ولم تقفْ به نفسُه الجادَّة وهمَّته العالية عند هذا الحد، فانطلق يروي ظمأها بكتاب الله فجالس أفاضِلَ المُقرئين ليتلقَّى منهم كالشيخ أحمد مصطفى أبو الحسن، والشيخ أحمد عبدالعزيز الزيات، والشيخ عبدالحكيم عبداللطيف، والشيخ محمد عبدالحميد عبدالله، والشيخ محمد عيد عابدين، وطار إلى فضيلة الشيخ بكري الطرابيشي عليه رحمة الله ليَقرَأ عليه في مدينة دمشق بسوريا، مرتين.
ولعَمرُ الله، إن هذه عزيمة قوية أن يتحقَّق مثل هذا الإنجاز في مثل هذه السن، وقبل هذا هو عطاء الله الوهاب على ما اطَّلع من نية عبده، فاصطفاه واجتَباه وحباه.
الْتحَقَ الشاب "عباس المصري" أول عهده بكلية الشرطة وتخرَّج فيها وعُيِّن في أكاديميتها، وأثناء ذلك حصل على الماجستير ثم الدكتوراه في الحقوق، ودرس في جامعات عدَّة، داخل مصر وخارجها، إلا أن الرجلَ "المصطفى" قد رغبتْ نفسه عن ذلك كله، وتاقَت لتعليم كتاب الله وإقرائه، ففرَّغ نفسه لذلك تمامًا، وخلَّى مناصبَ الدنيا وراء ظهره، ومِن كلية الشرطة حيث يُعلِّم الأمن والانضباط انتقل إلى تدريس القرآن الكريم وضبْط القراءات، فشغَل القرآنُ - الذي درسه محتسبًا - كل حياته وملأ عليه جميع أوقاته، وقد شهد له كل الذين شرفهم الله بالقراءة عليه والجلوس بين يديه بالإتقان، إلى جوار صفات أهل القرآن الحسَنَة؛ الصبر، والذكر، والبذل، والكرم، والحفاظ على وقت العلم وطلابه، وعلوِّ الهمة، وتلك لعَمر الله صفات المحسنين، نسأل الله أن يكون الشيخ منهم وأن يُبوِّئه منازلهم.
كان "الشيخ عباس المصري" رحمه الله مهمومًا بشؤون الأمة الإسلامية، ساعيًا في نصرة قضيتها، باذلاً لها من وقته ونفسه وماله، وقد كانت المرَّة التي التقيته فيها يتباحث مع بعض أهل الخير ممن يَقطنون في منطقة عشوائية داخل القاهرة؛ يريد أن يؤسِّس لهم مجمعًا إسلاميًّا يقوم على جمعهم فيه لأداء الصلاة وتعلم الدين، ويجمع أبناءهم ونساءهم على حفظ القرآن والتنشئة الإسلامية الصحيحة.
ولقد كان رحمه الله يكره البدَع وما دخل الإسلام من غرائب ليست منه في شيء، وإن تشبَّث بها المسلمون وزعموها من الإسلام؛ أذكر أن أهلَ الحيِّ الذين قصدهم ليَبني هذا "الصرح الإسلامي" في منطقتهم - وقد أخبَرَهم بما ينوي فعله - سألوه أن يجعَل في خطته لبناء المجمع ذي الأدوار العشرة دورًا للمُناسبات يُقيمون فيها الأفراح ويتقبَّلون فيها التعزية، فرفض أشد الرفض، وقال: هذا ليس مِن الإسلام.
وهذه أخلاق رجلٍ يتسنَّن باتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكيف لا؟ وهو الذي أقدم قبل ذلك على تقديم استقالته إلى كلية الشرطة حتى يتمكّن من إطلاق لحيته والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويربِّي أبناءه على ذلك، وقد كان.
لقد كان "الدكتور عباس المصري رحمه الله تعالى" من الأغنياء، لكنه مع ذلك كان من الزهّاد المعدود زهدهم في الغرائب والفرائد بين أهل عصره، وهذا هو الزهد الحقيقي؛ إذ هو يملك ويزهد فيما يَملِك، فالرجل الكبير الذي يَملك الفيلا ومزرعةً حولها اختار كلَّما ذهب إلى هناك أن يقيم في كوخ صغير في أطرافها، يتلو فيه القرآن بصوته النقي العذب، ويردِّد داخلَه ذكرَ الله الذي ما كان يفارق لسانه في كل الأحوال.
وكان "عباس المصري الأستاذ الجامعي، والشيخ المقرئ، والضابط الأكاديمي" متواضعًا شديد التواضع لطلابه، لا يستنكف أن يخدم ضيوفَه بأن يحملَ بنفسه - ومعه زوجُه الكريم - الطعامَ إليهم، وأن يَحملهم في سيارته غادين ورائحين.
وكان "فضيلة الشيخ المقرئ عباس المصري رحمه الله " يَسكُن إلى جوارنا في حي راقٍ من أحياء القاهرة - وهو حي مدينة نصر - وكان مسجدُه عامرًا بطائفتين من الناس: أهل التمدن، الحضريُّون، من الطبقة العُليا، من سكان المنطقة التي يقيم فيها، والأخرى القرويون البُسطاء الذين جاؤوا يسعَون على معايشِهم وسط هذه البيئة، وقدَّر الله لهم لُقْيا الشيخ رحمه الله وما أسعده من قدَر! وما أحلاها من لقيا!
ولقد رأيتُ شاهدًا من هؤلاء وهؤلاء ممَّن حباهم الله بمعرفة الشيخ والاحتكاك به، وأسعدهم الله بالجلوس معه على مائدة القرآن؛ اجتذبهم الشيخ إلى رحاب الكتاب الكريم بحسنِ بَيانِه، وطيب مَعشرِه، وجميل موعظته، وبشاشة وجهه، فأما المدنيُّ فلن تُخطئ عينك أن تراه اليوم ليلاً ونهارًا يُقرِئ المصريين والوافدين الراغبين في الحظوة بإجازة القرآن والارتباط بشرف الانتساب إلى أهله، ستراه في المسجد وغيره، يُقرئ، يبتغي بذلك الأجر والثواب من الله، وكم من مدنيٍّ مثله قد تلقَّى القرآن عن "فضيلة الشيخ"، ولقَّاه غيره، فتلامذة الشيخ في جنبات الإسلام الواسعة كثرٌ بفضل الله، يُقرئون.
وتشخَص أمام ناظري الآن صورة رجلٍ ريفي بسيط، خرج من الريف - من أرض الفيوم - وأتى إلى مصر - القاهرة - يبتغي فيها الرزق ويطلب فيها المعاش، ويسوقه رزقُه يومًا إلى اللقاء بسعادة الشيخ حين تردَّد للصلاة في مسجده، فيَجذبه الشيخ إلى حلقة القراءة بمَعهودِ بشاشته، ورفيع ذوقه، وعذب كلماته، فإذا هو لا يحسن أن يقرأ إلا شيئًا لا يقيم الأحرف فضلاً عن الكلمات والجُمَل، فيعكف الشيخ مع تلميذه الكبير "مهدي" ليُعلِّمه القراءة والكتابة في صبر وأناة حتى استطاع "الطالب العجوز" تلاوةَ القرآن ومع الخُلطة والدربة كان " حماي ووالد زوجتي الشيخ عبدالمهدي" يقرأ القرآن قراءًة حسنَة جميلة تسمَعُها منه فتسمع قراءة غضّةً طريةً ليست بالهذر، ولكنها قراءة مَن يعي معاني الكلام ويتدبّره، ولقد أخذ عن شيخه الذي كان يختم القرآن في كل أسبوع عادته تلك، فكان ربما ختمه في أسبوع أو أكثر قليلاً، وهكذا استطاع "فضيلة شيخنا عباس المصري" أن يرتفِعَ بكل من لقيَه إلى القرآن وهمَّة أهل القرآن، وسل عن ذلك بوّابين ونجّارين وحدّادين، تلقاهم فتَلقى نور القرآن في وجوههم وكلماته في صدورهم، يعود الفضل - بعد الله - إلى "الشيخ عباس" الذي صبَرَ على تعليمهم وتلقينهم.
لم يترك "الشيخ عباس المصري" كتبًا أو مؤلَّفات، لكنه ترك نسخًا من الكتب والمؤلَّفات تتحرك بين الأحياء وتعمل على تزكية النفوس وتطهير القلوب وإنارة الأفئدة بنور القرآن، منهم مَن هو اليوم شيخ شيوخ الإقراء في أمريكا، وهو فضيلة شيخنا الدكتور وليد بن إدريس المنيسي حفظه الله، ومنهم من هو في المغرب كالشيخ الدكتور توفيق العبقري، ومنهم من هم في السعودية حين كان يعمل فيها أستاذًا بكلية الملك فهد الأمنية بالرياض، ومنهم مَن في ليبيا، فضلاً عمن في مصر - وأوَّلهم أبناؤه، بنين وبنات - ومن كل بلاد الله كثير، جمعهم حول الشيخ علمُه ورفقُه الذي يصل إلى إحسانه بالمال على الفقراء من طلابه، فضلاً عن بذله مكتبته للطلاب، وهي التي تحوي مخطوطات سعى في شرائها بأغلى الأثمان، يستعيرون منها ويُصوِّرون ويقرؤون.
ومآثر الشيخ كثيرة لا زال غالبها حبيس صدور عارفيه ومحبِّيه، وأكثر منهم تلامذته، وحق الشيخ عليهم أن يبثُّوها في الطلاب والناس، وهو حق الدين أيضًا، فقد ندَر في زماننا أن نرى أحدًا مثلَ الشيخ يجمع بين العلم والعمل، وكان تلميذه الوفيُّ شيخنا الدكتور وليد قد وعد في رثائه لشيخه أن يكتب ترجمةً وافية له، وهذه فرصة لنذكِّر شيخَنا فيُسعفنا بها.
وليس كثيرًا على الشيخ أن يقوم بعض طلابه بزيارةٍ إلى مَسجدِهِ والحيِّ الذي كان يقطن فيه؛ ليتواصل مع بقية طلابه ومحبيه ويجمع سيرته، فإن فعل فسوف يخرج بكثير جدًّا من المواقف وبالشمائل التي يُحتفى بها، فلا زالت ذِكرى الشيخ العَطِرة تملأ عبق المكان، ولا تزال أحاديث الناس عنه تُثري المجالس بطيب الثناء عليه، ولعلَّ الله استجاب بعض دعائه؛ إذ كان يقول: "اللهم اجعل لي لسانَ صدق في الآخرين".
في يوم الاثنين 16 من شوال لعام 1425 هـ - الموافق 29 - 11 - 2004 م استردَّ الله وديعتَه، وتَوفَّى عبدَه الصالح - نحسبه كذلك - "عباس مصطفى أنور إبراهيم المصري"، تُودِّعه دموعُ الصالحين، وتسفِك عليه من حبَّات قلوبها؛ أسفًا على كل لحظة مضتْ في غير صحبته، أو تأتي وهو فقيد كل أذنٍ واعية سمعتْ به، أو عين بصيرة رأته.
ومما قيل في رثائه:
حُزني وحزنُ أحبَّتي لا يوصف
وغَدا جراحًا في فؤادِي يَنزفُ
ودُموعيَ الحرَّى تَزيد توجُّعي
ودموع غَيري للمُصابِ تُخفِّفُ
أمضِي على وجهي أقولُ بحُرقةٍ
وأنا بهمِّي شاردٌ متأسِّفُ
هل وُدِّعَ الشَّيخُ حقًّا؟ ويحكم!
هو مَن يعزُّ على الكِرامِ ويَشرُفُ!
شيخٌ على نهج النبي محمد ٍ
بالحلم والأخلاق فينا يُعرَفُ
باعَ الحياة َ بحُسنِها ونعيمِها
ويزينُه زهدٌ بها وتقشف
والحقيقة أني لا أعرف صاحبَ هذه الأبيات الجميلة إلا أنها ضُمِّنتْ في ترجمة للشيخ ذيلت باسم الكريمين: جابر جاد محمد، محمد صالح محمد، وهما مِن طلابه رحمه الله وكلمات الأبيات الرائقة كُتبت بقلم المحب، المفجوع بوفاة حبيبه الغالي، وحُقَّ في مثله التفجُّع!
فكيف ظنُّك برجلٍ على فراش الموت يمرِّضه الأطباء وهو لا يفتأ يقول: علاجي في الحور العين! ويكون آخر ما يقرأ عنده في إذاعة القرآن قوله تعالى: ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ﴾ [النبأ: 31، 32]، وتكون آخر أعماله من الدنيا الصلاة؛ فآخر شيء فعله "أنه دخل عليه وقتُ الصبح وهو في العناية المركَّزة، فطلب ترابًا فتيمَّم، وطلب أن يُدخِلوا عليه فضيلة شيخنا الدكتور محمد يُسري حفظه الله، فدخَل وصلى به الفجر في جماعة ثم حدَث التدهور والغيبوبة، فما أفاق منها إلى أن تُوفِّيَ" رحمه الله.
وحياة الشيخ مليئة بالعِبَر الظاهِرة، لمن أراد أن يعتبر، رحم الله فضيلة الشيخ عباس المصري رحمة واسعة، ورفع درجته في المهديين، وأخلف أمة الإسلام في علمائها خيرًا.