هو أبو زيد عبد الرحمن بن أبي سعيد بن يخلفتن،
ولد بقرطبة، و بها منشؤه، و بمجرد أن حفظ القرآن الكريم أكبّ على حلقات الشيوخ يتزود من الحديث النبوي و روايته و الفقه و أصوله و علم الكلام و اللغة و النحو و الأدب و الشعر، و تفتحت موهبته الأدبية مبكرة، و سال ينبوع الشعر متدفقا على لسانه،
و عمل في الدواوين الحكومية، و حظى بمكانة رفيعة عند أبي إسحق والى إشبيلية لأخيه الناصر الخليفة بمراكش (5٩٢-6٠٩ ه) و لابن أخيه المستنصر (6٠٩-6٢٠ ه) و عمل بدواوين عمه أبي العلاء إدريس في ولايته على إشبيلية و قرطبة، و تطورت الظروف و نودي بأبي العلاء-و هو في الأندلس-خليفة للموحدين بمراكش. و جاز الزقاق إلى عاصمته سنة 6٢6 و استقدم أبا زيد للعمل في دواوين مراكش و لباه راضيا، و لم تكد تمضى بضعة أشهر حتى لبى نداء ربه سنة 6٢٧ و يقول لسان الدين بن الخطيب في ترجمته إنه كان فاضلا سنّيا شديد الإنكار و الانحاء على أهل البدع، و كان متلبسا بالكتابة عن الولاة و الأمراء ملتزما بذلك مع كره له و حرصه على الانقطاع عنه. .
و يقول لسان الدين أيضا عن أبي زيد إنه كان آية اللّه في سرعة البديهة و ارتجال النظم و النثر وفور مادة و موالاة استعمال. و له في الزهد عملان: عمل طبع بدار إحياء الكتب العربية في القاهرة باسم «القصائد العشرية في النصائح الدينية و الحكم الوعظية» و لعلها هي التي سماها لسان الدين المعشرات الزهدية. و يقول إنه افتتحها بقوله: «المعشرات الزهدية، و المذكرات الحقيقية الجدية ناطقة بألسنة الوجلين المشفقين، شائقة إلى مناهج السالكين المستبقين، نظمها متبرّكا بعبادتهم، متيمنا بأغراضهم و إشاراتهم، قابضا عنان الدعوى عن مداناتهم و مجاراتهم. .» . و المعشرات قصائد تشتمل كل منها على عشرة أبيات فأكثر، منظومة على جميع الحروف الهجائية. و كان له بجوار هذا الديوان ديوان ثان بنفس النسق نظمه في العبادة و النسك و سماه: «المعشّرات الحبّيّة» و افتتحها بقوله: «النفحات القلبية، و اللفحات الشوقية، منظومة على ألسنة الذاهبين وجدا، الذائبين كمدا، نظم من نسج على منوالهم» و له يناجى ربه و يدعوه ضارعا:
إليك مددت الكفّ في كلّ شدّة و منك وجدت الّلطف في كل نائب
فحقّق رجائي فيك يا ربّ و اكفنى شمات عدوّ أو إساءة صاحب
و كم كربة نجّيتنى من غمارها و كانت شجا بين الحشا و التّرائب
فيا منجى المضطرّ عند دعائه أغثنى فقد سدّت علىّ مذاهبي
و سمّى مجموعته في المدائح النبوية «الوسائل المتقبّلة» و أضاف: «و الآثار المسلّمة المقبّلة مودعة في العشرية النبوية» نظم من اعتقدها من أزكى الأعمال، و أعدّها لما يستقبله من مدهش الأهوال، و فرّغ خواطره لها على توالى القواطع و تتابع الأشغال، و رجا بركة خاتم الرسالة، و غاية السؤدد و الجلالة. . و اللّه-سبحانه-ولىّ القبول للتوبة، و المنّان بتسويغ هذه المنة المطلوبة، فذلك يسير في جنب قدرته، و معهود رحمته الواسعة و مغفرته» و لعل هذه المجموعة هي نفسها المطبوعة في دار إحياء الكتب العربية باسم «الوسائل المتقبلة في مدح النبي صلى اللّه عليه و سلم» . و هي مخمسات على الحروف الهجائية من الهمزة إلى الياء، و المخمس قد يشتمل على عشرين دورا، و قد يقل عدد الأدوار فيه حتى أحد عشر، و من قوله في المخمس النونىّ عن رسول اللّه:
بدا قمرا مسراه شرق و مغرب و خصّت بمثواه المدينة يثرب
و كان له في سدّة النور مضرب نجىّ لربّ العالمين مقرّب (1)
حبيب فيدنو كلّ حين و يستدنى
من العالم الأعلى و ما هو منهم شبيه بهم في الوصف زاك لديهم
رحيم بكلّ الخلق دان إليهم نصيح لأهل الأرض حان عليهم
أضاء لهم صبحا و صاب لهم مزنا (2)
و هو يقول إن الرسول صلى اللّه عليه و سلم قمر استضاءت بأشعة نوره المشارق و المغارب، و خصّت به داره يثرب، شرف لها ما بعده شرف، و نزل في السماء، حين صعد إليها بمعراجه، عند سدرة المنتهى، نجيّا لرب العالمين مقربا إليه حبيبا، بل أقرب محبوب إليه. و إنه لمن عالم الملائكة الأعلى و إن لم يكن منهم، لشبهه بهم في الوصف و طهارته و إنه للرحمة المسداة إلى الخلق مع النصح الخالص لوجه ربه و مع الحنو و العطف، بل إنه شمس يضىء الوجود صبحا و ينسكب عليه غيثا غدقا. و لأبي زيد وراء هذا الديوان نبويات كثيرة أنشد منها المقري في النفح شذورا، من ذلك قوله في الرسول:
تقدّم كلّ العالمين إلى مدى تظلّ به الأوهام ظالعة حسرى (3)
و عفىّ رسوم الكافرين و أهلها فلا قيصر من بعد ذاك و لا كسرى
و خصّ بتشريف على الناس كلّهم بنور سماء ناقلوه عن الإسرا
ترقّى إلى السّبع الطّباق ترقّيا حقيقا و لم يعبر سفينا و لا جسرا
فسبحان من أسرى إليه بعبده و بورك في الساري و بورك في المسرى
و هو يقول إن الرسول صلى اللّه عليه و سلم تقدم عند ربه إلى مدى لا تستطيع الأوهام أن ترتفع إليه مهما صعّدت و مهما تلهفت. و قد محا رسوم الكفار كأن لم تكن شيئا مذكورا، فلا كسرى إذ سلبت منه كل بلاده و أصبحت من ديار الإسلام، و لا قيصر فقد سلبت الجوهرتان المتلألئتان في تاجه: مصر و الشام. و خصّه اللّه بتشريف على الناس ما بعده تشريف، خصه بالإسراء ليلا إلى بيت المقدس و ترقيه إلى السموات السبع و نزوله عند سدرة المنتهى يناجي ربه، فسبحان الذي أسرى بعبده. مرددا بذلك ما جاء في أول سورة الإسراء.
و يقول بورك في الرسول الساري و في المسرى و الإسراء. و يردد أبو زيد في مديحه النبوي معجزات الرسول المادية و معجزته الكبرى الخارقة معجزة القرآن الكريم و بلاغته التي ليس لها سابقة و لا لاحقة، و دائما يذكر أنه خير الأنبياء و أفضلهم، و أكثرهم برا بأصحابه، و يحمل مرارا على أعدائه من الملحدين، و يقول إنهم انحرفوا عن شاطئ النجاة فتردّوا في بحار هلاك ما بعده هلاك