الأمثال في القرآن الكريم – سورة البقرة (2)

 3- قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}[البقرة 26- 27].

ضرب المثل لينمي العقل، ويوسع آفاق التفكير، وفي هذا المثل القرآني ردُ للمشككين من المنافقين واليهود والمشركين، وتطمينٌ للمؤمنين، وغاية هذا المثل الدلالة على عظمة الخالق وقدرته، واستحقاقه للعبادة.

هذا المثل جمع بين البساطة ودقة التركيب، فالبعوضة يشاهدها ويعايشها جميع البشر، ودقة التركيب وتعقيداته التي يعجز البشر عن صنع مثله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]،

وتهدينا هذه الآية إلى موقف الناس تجاه هذا المثل المضروب، حيث ينقسمون إلى صنفين:

الأول: (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)، صنف المؤمنين: الذين يتفكرون في ضرب هذا المثل، وبه يهتدون إلى الإيمان واليقين بالحق سبحانه وتعالى، وأنه المستحق للعبادة:(.. وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا).

الثاني:( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) صنف الكافرين: الذين يغطُّون الحقيقة ويجحدونها؛ رغم أنها ماثلة أمامهم، وهذا هو الضلال بعينه:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ..)، (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) الفاسقين: تعبير قرآني دقيق، فهناك ارتباط بين الفسق الذي هو الخروج عن الجادة والفطرة، وبين المعنى اللغوي للفسق: وهو الخروج عن المألوف: فَسَقَتِ الرُطبة من قِشْرِهَا: أي خرجت منها؛ لعاهة بها.

(وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ)، وفيها إشارة إلى أن اختيار الإنسان للفسق سبب ضلاله، فما أضلَّه الله إلا لأنه اختار هذا الطريق.

وطباعهم وعاقبتهم بينته هذه الآية: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)).

هذه الآيات تشي بأن المنافقين واليهود والمشركون قد وجدوا من مناسبة ضرب الأمثال منفذاً للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن، بحجة أن ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله، وأن الله لا يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب والعنكبوت في كلامه وكان هذا طرفاً من حملة التشكيك والبلبلة التي يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة، كما كان يقوم بها المشركون في مكة، فجاءت هذه الآيات دفعا لهذا الدس، وبيانا لحكمة الله في ضرب الأمثال، وتحذيرا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها، وتطمينا للمؤمنين أن ستزيدهم إيمانا، إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فالله رب الصغير والكبير وخالق البعوضة والفيل، والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل، إنها معجزة الحياة معجزة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا الله، على أن العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل، إنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير وليس في ضرب الأمثال ما يعاب وما من شأنه الاستحياء من ذكره، والله جلت حكمته يريد بها اختبار القلوب وامتحان النفوس .

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقا


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.