هدايات سورة البقرة (4)

 الهداية الرابعة: بيان أصول الحق وأسسه:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)﴾.

ملخص الآيات السابقة:

إفتتح المولى سبحانه وتعالى سورة البقرة بذكر كتابه القرآن، وكونه حقاً لا ريب فيه، وذكر بعد ذلك أصناف البشر تجاهه من المهتدين به بالقوة وبالفعل، ومن الكافرين الذين فقدوا الاستعداد للهدى، ومن المنافقين المذبذبين بين المؤمنين والكافرين.

بعد هذا التمهيد جاءت هذه الآية والآيات الأربع بعدها مصرحات بدعوة جميع الناس إلى دين الله تعالى الحق ببيان أصوله وأسسه وهي:

(1) توحيد الألوهية بعبادة الله تعالى وحده. مع ملاحظة توحيد الربوبية.

(2) القرآن آيته الكبرى ودينه التفصيلي.

(3) نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – المرسل بهذا القرآن.

(4) الجزاء في الآخرة على الكفر وأعماله بالنار. وعلى الإيمان وأعماله بالجنة.

غاية العبودية:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ .

معنى الآية: هذا نداءٌ إلى الناس كلهم لعبادة ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم، ربهم الذي تفرد بالخلق فوجب أن يتفرد بالعبادة.

وللعبادة هدف لعلهم ينتهون إليه ويحققوه هذا الهدف هو: التقوى (لعلكم تتقون)، عجيب أن يعبد بعض الناس غيرَ الذي خلقهم، أين العقول يا أصحاب العقول؟!

إذن غاية العبادة: بلوغ شاطئ التقوى، كأنه قال: اعبدوا ربكم رجاء اللحاق بقوافل المتقين، وفيه إشارة إلى أن التقوى منتهى أمل وغاية طموح العابدين.

قال القرطبي:( المراد بالناس هنا على قولين: أحدهما: الكفار الذين لم يعبدوه، يدل عليه قوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ﴾، الثاني: أنه عام في جميع الناس، فيكون خطابه للمؤمنين باستدامة العبادة، وللكافرين بابتدائها، وهذا حسن).

﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ .

أمر الله تعالى بالانتباه إلى ستة دلائل على ألوهيته: اثنين من الأنفس، وأربعة من الآفاق:

أولاً: نفس العبد: ﴿خلَقَكُمْ﴾ لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه.

ثانياً: الآباء والأمهات، وهو قوله: ﴿والذين مِنْ قَبْلَكُم﴾.

ثالثاً: الأرض لأنها أقرب شيء للإنسان.

رابعاً: والسماء لأنها تُظِلُّل العبد في كل مكان.

خامساً: والماء الذي ينزل من السماء.

سادساً: الثمرات التي تخرج من الأرض.

﴿الذي جعل لكم الأرض فراشا﴾: وهو تعبير يشي باليسر في حياة البشر على هذه الأرض، وفي إعدادها لهم لتكون لهم سكناً مريحاً وملجأ واقيا كالفراش، والناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله لهم؛ لطول ما ألفوه، ينسون هذا التوافق الذي جعله الله في الأرض ليمهد لهم وسائل العيش وما سخره لهم فيها من وسائل الراحة والمتاع، ولولا هذا التوافق ما قامت حياتهم على هذا الكوكب.

﴿والسماء بناء﴾: فيها متانة البناء وتنسيق البناء والسماء ذات علاقة وثيقة بحياة الناس في الأرض وبسهولة هذه الحياة وهي بحرارتها وضوئها وجاذبية اجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض وبينها تمهد لقيام الحياة على الأرض وتعين عليها فلا عجب أن تذكر في معرض تذكير الناس بقدرة الخالق وفضل الرازق واستحقاق المعبود للعبادة من العبيد المخاليق.

﴿وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم﴾: والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعا، فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها.

النتيجة الحاسمة: استحقاق الله تعالى للعبادة، بعد تلك الأدلة السابقة، والتي تتمثل بقول الله تعالى: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾: لا تعلِّقوا قلوبكم بغير الله، فإنه سبحانه المتفرِّد بالخلق والأمر، فإذا توهَّمْتم أن شيئا من نفع أو ضرر، أو خير أو شر يجري بتدبير مخلوق مثلكم، فاعلموا أنه لون من الشِّرك الخفي.

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقا


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.