في الأيات السابقة (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين) علَّمنا الله تبارك وتعالى: كيف نحمده، وكيف نثني عليه، وكيف نمجِّده ونفوِّض الأمر إليه.
و الآن نسير في طريق الإيمان بزاد جديد، عند قوله تعالى:(إياك نعبد، وإياك نستعين) كأن العبد بعد أن حمد ربه وأثنى عليه، ومجَّده وفوَّض الأمر إليه قرَّبه الله منه وأدناه، فكأنه لم يكن حاضراً في أول الأمر، ثم صار الآن بين يديه، يخاطب ربه بـ (إياك نعبد) يُقِرُّ بها بالتوحيد الخالص لربه ومولاه، ويتبرؤُ من الشرك؛ ولذلك قدَّم الضمير لقطع احتمال الشريك بقوله: (إياك)، وكذلك في (إياك نعبد) دفعٌ للرياء، وفي (إياك نستعين) تبرؤٌ من الحول والقوة ودفع للكبرياء.
و فيها أيضاً : (إياك نعبد وإياك نستعين) تحررٌ مطلق من كل عبودية سوى عبودية الله تبارك وتعالى، وبها يستشعر الإنسان غاية وجوده في الحياة، واستعانته الدائمة بربه القادر على كل شيء.
و بعد الحمد والثناء والتمجيد له سبحانه، والإقرار له بالعبودية الخالصة، والتبرؤ من الحول والقوة إلا به (وكل ذلك توطئةٌ وتمهيدٌ وديباجةُ) لطلب مفتاح الخير كله (طلب الهداية) في الدعاء العظيم الجامع النافع: (إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم) هذا أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعه كما ذكر ابن القيم – رحمه الله – بقوله:(أفضل الدعاء وأنفعه: الهداية إلى صراطه المستقيم، المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته، بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، والاستقامة عليه إلى الممات…).
ولاحظ أننا ندعوا الله بالهداية في أجل لحظات الاتصال بالله تعالى (أثناء الصلاة) في كل ركعة، بعد العناء الذي يمر بنا في أوقات الغفلة.
ولاحظ تكرار طلب الهدية؛ يدل على أن الضَّلال أقرب إلى العبد من شراك نعله، وأن فرص الانحراف – مهما استقمنا – كثيرة، واحتمالات ذلك كبيرة، خاصة في عصرنا هذا المليء بالفتن والمغريات، نسأل الله هداية لا انقطاع فيها.
(صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين) في هذه الآية لفتة الإنعام الحقيقي إنما تكون بتحقق الهداية بعد طلبها، كما أنعم الله على النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وفيها أيضاً طلب الاقتداء بهم في تمثلها والسير عليها: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده).
وكل من عرف الحق فلم يتبعه فقد شابه اليهود (المغضوب عليهم)، وكل من ضل طريقه في معرفة الحق فقد الْتحق بالضالين (النصارى)، في الصحيح الجامع:( أن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضُلَّال).
وجاء ختام سورة الفاتحة بالتأمين: وهو طلب الاستجابة للدعاء من المولى سبحانه، وتحقق المطلوب من الزاد الإيماني، بعد التدبر الجميل بترديد (آمين)، قال عليه الصلاة والسلام، كما في البخاري:(إذا قال أحدكم: (آمين)، وقالت الملائكة في السماء: (آمين)، فوافقت إحداهما الآخرى، غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه).
فما أعظمه من قول يسير لا كلفه فيه ترتبت عليه المغفرة والرضى من رب العالمين .