صفحات الموقع
برنامج لمسات بيانية ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ أي إلا إذا أراد ربهم أن يرحمهم فينقذهم ويمتعهم في الحياة إلى أجل. فنفى الإنقاذ إلا من طريق رحمة الله بهم. والتعبير يحتمل معنيين: الأول أن ينقذهم رحمة بهم ويمتعهم إلى حين. والمعنى الآخر أن إنقاذهم على نوعين: إنقاذ رحمة وإنقاذ تمتيع. وذلك أن قسماً من هؤلاء الناجين يؤمنون بعد الكفر ويهتدون بعد الضلال فكان إنقاذهم رحمة منه تعالى. والقسم الآخر يبقون على ضلالهم فيكون إنقاذهم متاعاً إلى حين. والقسمان نالتهم رحمه الله والمتاع إلى حين. فالذين آمنوا نالتهم رحمة الله بإنقاذهم من الغرق وبإيمانهم. والذين لم يؤمنوا نالتهم رحمة الله بالنجاة من الغرق. وعلى هذا فكلهم مرحومون ممتعون ولكن منهم من نالته رحمة أوسع بنجاته وإيمانه. وقال ﴿رَحْمَةً مِنَّا ليدل على أن الرحمة بهم كانت منه سبحانه وإلا فليس ثمة من يرحمهم ويغيثهم، وحتى لو أغاثهم أحد فذلك برحمته سبحانه لهم وتهيئته من ينجيهم. فهم لا ينقذون إلا برحمته سبحانه. جاء في ﴿التفسير الكبير في قوله ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ "وهو يفيد أمرين: أحدهما: انقسام الإنقاذ إلى قسمين: الرحمة والمتاع. أي فمن علم الله منه أنه يؤمن فينقذه الله رحمة، وفيمن علم أنه لا يؤمن زماناً ويزداد إثماً. وثانيهما: أنه بيان لكون الإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزوال في الدنيا لابد منه فينقذه الله رحمة ويمتعه إلى حين. ثم يميته فالزوال لازم أن يقع" ﴿1. وقد تقول: لقد قدم الرحمة ههنا على الجار والمجرور فقال ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا فهل يصح أن يقدم الجار والمجرور على الرحمة فيقول ﴿ولا هم ينقذون منا إلا رحمة ومتاعاً إلى حين أو ﴿ولا هم ينقذون إلا منا رحمة ومتاعاً إلى حين كما قدم ذلك في مواطن من القرآن الكريم وذلك نحو قوله ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ هود ﴿9. وقوله ﴿وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ الشورى ﴿48. وما الغرض من هذا التقديم والتأخير؟ فنقول: ههنا سؤالان. السؤال الأول: هل يصح تقديم الجار والمجرور على الرحمة في آية يس؟ والآخر: ما الغرض من هذا التقديم والتأخير فيما ورد من نحو ذلك في القرآن؟ أما الجواب عن السؤال الأول فقال: أنه لا يصح تقديم الجار والمجرور على الرحمة في آية يس لأن المعنى سيختل ذلك أنه لو قال ﴿ولا هم ينقذون منا إلا رحمة ومتاعاً إلى حين أو ﴿ولا هم ينقذون إلا منا كان المعنى أنه سينقذهم من الله تعالى منقذ وينجيهم منه مغيث رحمة ومتاعاً إلى حين، وبذلك يكون الله عاجزاً عن إغراقهم تعالى عن ذلك لأنه سيكون من ينقذهم من الله، ولذا لا يصح التقديم في الآية. أما تقديم الجار والمجرور فيما ذكرناه من آيتي هود والشورى فذلك ما يقتضيه المقام. فإنه سبحانه وتعالى قال في هود: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ﴿9 وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ هود ﴿9 ،10. وقال في الشورى ﴿وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ . في حين قدم الرحمة على الجار والمجرور في سورة فصلت فقال: ﴿لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظ ٍ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴿49 – 51. ومن النظر في المواطن الثلاثة يتضح أن الكلام في ﴿فصلت على الرحمة أكثر وأثرها على الإنسان أوسع مما في هود والشورى فإنه في هود والشورى لم يذكر إلا إذاقته إياها ونزعها منه، فذكر حالة نزع الرحمة فقط ولم يذكر أثر الرحمة عليه.وأما في الشورى: فإنه لم يزد على أن قال ﴿فرح بها. وأما في ﴿فصلت فقد فصل وأطال في وصف أثرها فيه واحتفائه بها فناسب تقديمها في ﴿فصلت. ونحو ذلك قوله تعالى في سورة هود ﴿وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ - ﴿2 8 بتقديم الرحمة على الجار والمجرور. وقوله في السورة نفسها ﴿وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً هود ﴿63 بتقديم الجار والمجرور على الرحمة. ومن النظر في سياق الآيتين يتضح سبب التقديم والتأخير فيهما. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ…ا لخ ﴿25 – 28. وقال: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ... الخ ﴿61 – 63. فأنت ترى من النصين السابقين أن الكلام على الرحمة في قصة نوح أطول ووصفهما أكثر فقد قال ﴿وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ . وليس الأمر كذلك في قصة صالح فقد قال﴿ وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً ولم يزد على ذلك. ثم قال بعدها ﴿فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ . فلما كان الكلام على الرحمة أكثر في قصة نوح قدم الرحمة وإنما لم يكن الكلام كذلك في قصة صالح أخرها. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن الكلام في قصة صالح على الله أكثر ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ. وقال في قصة نوح ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فقال في قصة صالح: 1- اعْبُدُوا اللَّهَ. 2- مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ. 3- هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ. 4- وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا. 5- فَاسْتَغْفِرُوهُ. 6- ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ. 7- إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ. ولم يزد في قصة نوح على أن قال أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. فناسب تقديم الضمير العائد على الله في قصة صالح فقال وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً دون قصة نوح. فناسب التقديم والتأخير من جهتين: 1- من جهة التوسع في ذكر الرحمة في قصة نوح فناسب ذلك تقديمها. 2- ومن جهة التفصيل في الكلام على الله في قصة صالح دون قصة نوح فناسب تقديم ضميره وتأخير الرحمة. وقد تقول: لقد قال في آية يس ﴿إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وفي مواطن من القرآن الكريم قال ﴿رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا فهل من فرق بين التعبيرين؟ فنقول: الظاهر من التعبير القرآني أن قوله ﴿رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا أخص من قوله ﴿ رَحْمَةً مِّنَّا ذلك أن قوله ﴿ رَحْمَةً مِّنَّا فيه الرحمة عامة تشمل جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم فقد قال تعالى ﴿وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ وقال ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ فصلت ﴿50. أما قوله ﴿رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا فهي رحمة خاصة بالمؤمن ولم ترد في القرآن الكريم في غير المؤمنين. قال تعالى على لسان سيدنا نوح ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ هود ﴿28. وقال في الخضر وهو الرجل الصالح الذي اتبعه موسى ليتعلم منه ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا الكهف65. وقال في سيدنا أيوب عليه السلام ﴿وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ الأنبياء 84. ونظير هذا قوله ﴿نعمة منا و﴿نعمة من عندنا فإن قوله ﴿نعمة منا فيه النعمة عامة تشمل المؤمن والكافر، قال تعالى ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الزمر 49. وقال ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ الزمر 8. فهذه النعمة عامة شملت عموم الناس وقد أصابت الكافر كما هو واضح في الآية الثانية. أما قوله ﴿نعمة من عندنا فهي خاصة بالمؤمن، قال تعالى ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ – القمر 34،35 وهذا نظير قوله ﴿رحمة منا و﴿رحمة من عندنا. وقد تقول ولكنه قد يرد في الموقف الواحد مرة ﴿رحمة منا ومرة ﴿رحمة من عندنا وذلك نحو قوله تعالى في سيدنا أيوب في سورة الأنبياء ﴿وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ 84. وقوله فيه في سورة ﴿ص ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ - 43. فما الفرق؟ فنقول إن السياق الذي وردت فيه كل من الآيتين هو الذي يوضح سبب الاختلاف بين التعبيرين. قال تعالى في سورة ﴿ص ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ 41-44. وقال في سورة الأنبياء ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ 83-84. ومن النظر في النصين يتضح الفرق: 1- فقد قال في سورة ﴿ص ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ فذكر مس الشيطان له، وقد اختلف المفسرون في تفسير هذا المس وفسره بعضهم بانه وسوسة من الشيطان أطاعه فيها، جاء في ﴿الكشاف: "ولما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سبباً فيما مسه الله به من النصب والعذاب نسبة إليه" ﴿2. أما في سورة الأنبياء فقال ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ فذكر في ﴿ص ما هو خلاف الأولى فناسب ذكر ﴿رحمة منا في ﴿ص و﴿رحمة من عندنا في الأنبياء. 2- ذكر في سورة الأنبياء الله بصفة الرحمة فقال ﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ولم يذكر مثل ذلك في ﴿ص. 3- ذكر في الأنبياء أن الله استجاب له وكشف ما به من ضر تصريحاً ولم يذكر مثل ذلك في ﴿ص بل فهم ذلك ضمناً، فكان ما في الأنبياء أتم وأكمل مما ذكر في ﴿ص فناسب كل تعبير موطنه. ثم إن السياق في كل من السورتين يوضح ذلك أيضاً: فقد ذكرت قصة أيوب عليه السلام بعد قصة داود وسليمان عليهما السلام في السورتين، وكان السياق في سورة ﴿ص فيما وقع لهما خلافاً للأولى فقد ذكر فيها سيدنا داود وتسور المحراب عليه وفزعه من المتسورين، وذكر الحكم في مسألة النعاج التي ترمز إلى أمر ما الله أعلم به، وعلى أية حال فقد ظن داود أن الله قد فتنه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب وغفر الله له ذلك. وذكر سليمان وأنه أحب حب الخير عن ذكر ربه، وذكر أن الله قد فتنه وألقى على كرسيه جسداً ثم أناب. وذكر أيوب وأن الشيطان قد مسه بنصب وعذاب. فالمقام والسياق في الابتلاءات والفتن التي تعرض لها الأنبياء المذكورون وليس في سورة الأنبياء مثل ذلك وإنما ذكر التفضل والإنعام عليهم ورحمته بهم فقد ذكر داود وسليمان وحكمهما في الحرث فقال ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ولم يذكر إنه فتنهما وإنما ذكر تفضله وإنعامه عليهما. وذكر أيوب ولم يذكر إنه مسه الشيطان وإنما قال ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فناسب المقام والسياق ذكر الخصوصية بقوله ﴿رحمة من عندنا في سورة الأنبياء دون سورة ﴿ص والله أعلم. ثم لننظر إلى الآيتين من ناحية آخري فقد قال في ﴿الأنبياء: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ. وقال في ﴿ص: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وإليك الفرق بينهما: في الأنبياء في ﴿ص فاستجبنا له -- فكشفنا ما به من ضر -- أتيناه أهله وهبنا له أهله رحمة من عندنا رحمة منا وذكرى للعابدين وذكرى لأولي الألباب ونود أن نذكر ما يأتي تعقيباً على النصين: 1- إن قوله ﴿أتيناه يشمل ﴿وهبنا له وزيادة، فإن الإيتاء يشمل الهبة وغيرها، فقد يستعمل الإيتاء في المال وغيره نحو قوله ﴿آتيناه حكماً وعلماً وقوله ﴿آتينا ثمود الناقة مبصرة وقوله ﴿آتيناهم الكتاب مما لا تصح الهبة في نحوه. 2- إن قوله ﴿رحمة من عندنا يشمل ﴿رحمة منا وزيادة، إذ الرحمة في قوله ﴿مناعامة يشترك فيها عموم الخلق مؤمنهم وكافرهم، أما قوله ﴿رحمة من عندنا فهي رحمة خاصة تزيد على الرحمة العامة فهي إذن تشمل قوله ﴿رحمة منا مع زيادة في الرحمة. 3- وقوله ﴿للعابدين يشمل أولى الألباب وزيادة في الوصف، فإن العابدين كلهم من أولي الألباب وليس أولو الألباب كلهم من العابدين، ذلك أنه لا تصح عبادة من غير عقل، وعلى هذا فإن العابدين يزيدون في الوصف على أولي الألباب، فإن العابدين هم: أولو الألباب + عبادة فكان قوله ﴿للعابدين يشمل أولي الألباب وزيادة. 1- وزاد على ذلك قوله فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ. وبهذا يتضح أن آية الأنبياء تشمل آية ﴿ص وزيادة، فناسب كل تعبير مكانه. هذا علاوة على إنه في سورة ﴿ص تكرر ذكر مشتقات الهبة، وفي ﴿الأنبياء تكرر ذكر الإيتاء. فقد قال في ﴿ص ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ - 9، وقال ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ- 30 وقال ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ 35- وقال ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ 43. وقال في ﴿الأنبياء: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً ﴿48 وقال ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ 51 وقال ﴿وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ 73 وقال ﴿وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا 74 وقال ﴿وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا 79 وقال 0وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ 84 فناسب لفظ ﴿وهبنا ما في ﴿ص و﴿آتينا ما في الأنبياء من حيث السمة التعبيرية لكل من السورتين. ثم من ناحية آخري إن لفظ العبادة والعابدين ورد في سورة الأنبياء أكثر مما ورد في ﴿ص بل لم يرد لقط ﴿العابدين في ﴿ص. فقد ورد ذلك في الأنبياء عشر مرات في حين ورد في ﴿ص خمس مرات. قال تعالى في الأنبياء ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ 19 وقال ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴿ 25 وقال ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ 26 وقال ﴿قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ 53 وقال ﴿ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ﴿66 وقال ﴿أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴿67 وقال: ﴿وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴿73 وقال ﴿وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴿84 وقال ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ 92 وقال ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴿106. وقال في ﴿ص: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ 17 وقال ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ ﴿30 وقال ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ 41 وقال ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ 44 وقال ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ﴿45﴿45. فناسب قوله ﴿وذكرى للعابدين ما في الأنبياء، وقوله ﴿وذكرا لأولى الألباب ما في ﴿ص. ومما زاده حسناُ أنه قال في ﴿ص ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴿ 29 فناسب قوله ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ . وأنه قال في ﴿الأنبياء ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴿73. وقال ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴿106. فناسب ذلك قوله ﴿وآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ هذا علاوة على أن سورة الأنبياء تكررت فيها مواقف العبادة وسياقاتها مما لم ير مثله في ﴿ص وشرح ذلك يطول مما لا يناسب هذا المقام. فناسب كل تعبير مكانه من كل وجه، والله أعلم.

﴿ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ سورة يس ﴿٤٤﴾

المصدر: https://quranpedia.net/note/48866