الإعدادات
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ التسبيح هو التنزيه فمعنى ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ ﴾ أن هؤلاء نزهوه عما لا يليق من الصفات وأنهم ذكروا ذلك بما يليق من حالهم مما نفقه من التسبيح وبما لا نفقه. لقد ورد فعل التسبيح في القرآن الكريم معدّي بنفسه ومعدّي باللام. فمما ورد معدي بنفسه قوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلً﴾ - الأحزاب ﴿41، 42﴾ وقوله ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ- ﴾ الطور ﴿49﴾. ومما ورد معدّي باللام هذه الآية التي افتتح بها السورة. ونظيرها في مفتتح سورة الحديد وسورة الحشر وقوله ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ ﴾ الإسراء ﴿44﴾ وغيرها. إن معنى ﴿سَبِّحْهُ﴾ نزهه – كما ذكرنا – ومعنى ﴿سَبِّحُ لَهُ﴾ أي فعل ذلك لأجله فاللام تفيد التعليل. فالتسبيح هو الفعل. والتسبيح له هو الفعل لأجله كما تقول: صلى وصلى له ونسك ونسك له. ولا ينفع الفعل حتى يكون له سبحانه. فكل فعل أو عبادة لا تنفع حتى تكون له وحده وإلا كان ذلك ضلالاً. فكل فعل لا يكون له باطل. قال تعالى ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ - الأنعام 162. فمن سبح رياء فليس بمسبح لله ومن صلى رياء فليس بمصل له، فالتسبيح ينبغي أن يكون له تعالى خالصاً كسائر العبادات. فالتسبيح هو الفعل. والتسبيح له هو إخلاص النية والعمل له. جاء في ﴿البحر المحيط﴾: واللام في ﴿لِلَّه﴾ إما أن تكون بمنزلة اللام في ﴿نصحت لزيد﴾ يقال: سبح الله كما يقال: نصحت زيدا فجئ باللام لتقوية وصول الفعل إلى المفعول. وإما أن تكون لام التعليل أي أحدث التسبيح لأجل الله أي لوجهه خالصاً ﴿1﴾. ومن الملاحظ في هذين الاستعمالين في القرآن الكريم أي في نحو سبح لله وسبحه أنه يستعمل اللام مع العاقل وغير العاقل وأما المتعدي بنفسه فلا يستعمله إلا للعقلاء. قال تعالى ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ ﴾ - الحديد ﴿1﴾ وقال ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ﴾ الإسراء ﴿44﴾ فهذا لغير العاقل والعاقل. وقال ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ ﴾ - النور ﴿41﴾ فهنا اختلط العقلاء بغيرهم. وقال ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ﴾ - النور ﴿36﴾ وقال ﴿فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ - فصلت ﴿38﴾ وهذا خاص بالعقلاء. أما المتعدي بنفسه فلم يرد إلا للعاقل قال تعالى ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلً﴾ - الفتح ﴿9﴾ وقال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ - الأحزاب ﴿41، 42﴾. فتسبيح غير العقلاء لم يرد إلا باللام، أما تسبيح العقلاء فقد ورد باللام وبدونها. وثمة ملاحظة أخرى في استعمال هذين التعبيرين وهي أنه يستعمل اللام مع ما هو أعم وأشمل سواء كان ذلك من حيث المسبحون أم من حيث أوقات التسبيح. فقد قال الله إنه يسبح له ما في السماوات وما في الأرض. وإنه تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وهذا أعم تسبيح وأشمله في حين أنه قد يستعمل المتعدي بنفسه للواحد أو للجماعة التي لا تبلغ ذلك المبلغ في الشمول والسعة. قال تعالى ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ ق ﴿40﴾ وقال ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ﴾ الإنسان ﴿26﴾ وقال ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ - الأحزاب ﴿42﴾ ولم يرد في المتعدي بنفسه نحو ذلك الشمول في المسبحين. ويكفي ذلك بياناً أن الفعل مع اللام يستعمل للعقلاء وغيرهم أما المتعدي بنفسه فلم يستعمله إلا للعقلاء. ومثل ذلك الاتساع في الأوقات. فما ورد من الأوقات مع اللام أكثر اتساعاً وأعم وأشمل. قال تعالى مع المتعدي بنفسه ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ - الفتح ﴿9﴾ وقال ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ - الأحزاب ﴿42﴾ في حين قال مع اللام ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ﴾ - النور ﴿36﴾ فذكر ذلك بصيغة الجمع لا بصيغة المفرد، فالغدو جمع غدوة والآصال جمع أصيل. وقال ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ ق ﴿40﴾ وقال ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ - الطور ﴿49﴾ وقال ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ﴾ ا لإنسان ﴿26﴾ ففي كل ذلك قال ﴿مِنَ اللَّيْلِ﴾ بمن التبعيضية ثم ذكر وقتاً آخر ليس طويلاً وهو ﴿أَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ أو ﴿ إِدْبَارَ النُّجُومِ ﴾ حتى أنه في آية الإنسان لم يذكر غير الليل في حين قال ﴿ فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ﴾ - فصلت ﴿38﴾ فقال ﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ بإطلاق الليل والنهار من دون تقييد ولم يذكر ﴿من﴾ الدالة على البعضية بل ذكر الباء التي تفيد الظرفية. ثم قال ﴿وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ للدلالة على مداومة التسبيح وطوله. لقد ورد التسبيح في القرآن الكريم بصور شتى فقد ورد بالفعل الماضي نحو ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ وورد بالمضارع نحو ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ وورد بالأمر نحو ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ وقوله ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ كما ورد باسم المصدر وهو ﴿سُبْحَانَ﴾ وذلك ليشمل الأزمنة كلها ويستغرقها. فالفعل الماضي يستغرق الزمن الماضي والمضارع يستغرق الحال والاستقبال والأمر يفيد طلب التسبيح في المستقبل. والمصدر غير مقيد بزمن أو فاعل فهو يفيد الحدث المطلق فهو يدل على حدوث التسبيح سواء كان هناك من يسبحه أم لا. فاستغرق ذلك الأوقات كلها. وأفاد أنه مستحق التسبيح على الدوام سواء كان هناك من يسبح أم لم يكن. جاء في ﴿التفسير الكبير﴾: ثم إنه تعالى قال في البعض من السور ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ وفي البعض ﴿يُسَبِّحُ﴾ وفي البعض ﴿سبّحْ﴾ بصيغة الأمر ليعلم أن تسبيح حضرة الله تعالى دائم غير منقطع لما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان والأمر يدل عليه في الحال ﴿2﴾. لقد افتتحت السورة بالفعل الماضي ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ شأن سور أخرى وقد افتتح قسم آخر من السور بالفعل المضارع أي ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴿1﴾﴾ ومن الملاحظ أن كل سورة تبدأ بالفعل الماضي أي ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ يجرى فيها ذكر للقتال بخلاف ما يبدأ بالفعل المضارع أي ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ فقد قال في سورة الحديد ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ ﴾ – ﴿10﴾. وذكر في سورة الحشر إخراج الكافرين من حصونهم وتكرر في السورة ذكر القتال ﴿أنظر على سبيل المثال الآيات 10، 11، 13﴾. وقال في سورة الصف ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ وذكر الجهاد بقوله ﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ۚ َ﴾. وكل تلك السور تبدأ بالفعل الماضي ﴿سَبَّحَ﴾ ولم يرد مثل ذلك فيما بدأ بالفعل المضارع. ومن الملاحظ أيضاً أنه في قسم من الآيات يكرر ﴿مَا﴾ فيقول ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ ﴾ فكرر ﴿مَا﴾ فقال ﴿ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ ﴾ . وحيث كرر ﴿ مَا﴾ في آيات التسبيح أعقب ذلك بالكلام على أهل الأرض. وإذا لم يكرر ﴿مَا﴾ فإنه لا يذكر شيئاً يتعلق بأهل الأرض وبعدها. وقد ذكر بعد هذه الآية أمراً يتعلق بأهل الأرض فقال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ فكان تكرار ﴿ مَا﴾ هو المناسب ﴿3﴾. وقدم الجار والمجرور ﴿لِلَّهِ﴾ على الفاعل وهو ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ ﴾ وذلك لأن المجرور أهم فإن السياق ليس على الفاعل وإنما هو على مستحق التسبيح وهو الله ولذا ذكر بعد ذلك قسماً من صفاته فقال ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿8﴾﴾ ثم قال بعدها ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ ثم قال ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا﴾ ذكر ما يحبه الله وما لا يحبه. فقدم ما هو أهم وأولى. وقدم ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ على ﴿مَا فِي الْأَرْضِ﴾ وذلك لأن أهل السماوات أسبق في التسبيح من أهل الأرض فإنه لما أراد الله خلق آدم قالت الملائكة ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ ﴾ - البقرة ﴿30﴾ فقدم ما هو أسبق. وهناك أمر آخر وهو أنه قدم ما هو أدوم تسبيحاً. فما في السماوات أدوم تسبيحاً قال تعالى ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ - الأنبياء ﴿20﴾. ولا تقل: إن ﴿مَا﴾ لغير العاقل فلا تشمل الملائكة. فإن ﴿مَا﴾ كما هو معلوم تكون لذوات غير العقلاء ولصفات العقلاء. كقوله تعالى ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا﴾ - الشمس ﴿7، 8﴾ فاتضح ما قلناه. ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ العزيز هو الغالب الممتنع من أن يغلبه أحد. والحكيم قد يكون فعيلاً من الحكم. وقد يكون من الحكمة. والعزيز إذا حكم كان ذلك منتهى العزة. فقد يكون العزيز حاكماً وقد يكون غير حاكم. وقد ذكر هنا أنه جمع العزة والحكم فكان ذلك غاية الكمال فيهما. وإذا كان ﴿الْحَكِيمُ﴾ من الحكمة فذلك منتهى الكمال أيضاً ذلك أنه يكمل عزته بالحكمة فقد يكون العزيز متهوراً فيكون ذلك نقصاً فيه. والراجح أن كلا المعنيين مراد فهو حكيم من الحكم وحكيم من الحكمة فهو العزيز الحاكم ذو الحكمة. وقال ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ بتعريف الوصفين ليدل على أنه لا عزيز في الحقيقة سواه ولا حاكم ولا حكيم في الحقيقة سواه فإن كل عز يناله غيره فمن عزته سبحانه وكل حكم أو حكمة لغيره فذلك منه سبحانه كما قال تعالى ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ - آل عمران ﴿26﴾ وقال ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ۚ ﴾ - البقرة ﴿269﴾. إن قوله ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ﴾ يعني أن ما في السماوات وما في الأرض نزهوه عن صفات النقص وأثبتوا له صفات الكمال. وقوله ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ يدل على الروحانية وإبطال الشرك إذ لا عزيز سواه ولا حاكم غيره، فهذه الآية تدل على توحيد الله سبحانه واتصافه بصفات الكمال وتنزيهه عن النقص. وتفيد إقرار ما في السماوات وما في الأرض له بذلك وخضوعهم له دون غيره خضوع قهر وعبادة. فإن الخضوع قد يكون خضوع قهر وغلبة لا خضوع عبادة وتقديس. أما خضوع ما في السماوات وما في الأرض فهو خضوع قهر وعبادة. فخضوع القهر يدل عليه قوله ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ويدل عليه وصف نفسه بـ ﴿القهار﴾. وخضوع العبادة والاستحقاق يدل عليه قوله ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ فدل ذلك على الكمال المطلق له سبحانه. جاء في ﴿التفسير الكبير﴾: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ ﴾ أي شهد له بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات الحميدة جميع ما في السماوات والأرض، و ﴿الْعَزِيزُ﴾ من عز إذا غلب وهو الذي يغلب على غيره أي شيء كان ولا يمكن أن يغلب عليه غيره. و﴿الْحَكِيمُ﴾ من حكم على الشيء إذا قضى عليه وهو الذي يحكم على غيره أي شيء كان ذلك الغير ولا يمكن أن يحكم عليه غيره. فقوله ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ ﴾ يدل على الربوبية والوحدانية إذن ﴿4﴾. لقد ارتبط هذان الاسمان الكريمان بما ورد في السورة على العموم فقد شاع فيها جو العزة والحكم والحكمة. فقد ارتبط باسمه العزيز واسمه الحكيم من معنى الحكم قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ ولا يفعل ذلك إلا العزيز الحكيم. وارتبط بهما أيضاً قوله ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ وقوله ﴿ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ ﴾ وقوله ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ ، فإنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا العزيز الحكيم. وارتبط باسمه ﴿الحكيم﴾ من الحكمة قوله تعالى ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ فإن نور الله إنما هو للهداية. والهداية من الحكمة. والذي يهدي إنما هو الحكيم. وارتبط به أيضاً قوله ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ﴾ والهدى من الحكمة. والحق إنما يدل على الحكيم. وارتبط به أيضاً قوله تعالى ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ والذي يدل على ذلك حكيم. وقوله ﴿ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ والذي يعلم إنما هو حكيم لأن من مقتضيات الحكمة العلم. والذي لا يعلم لا يكون حكيماً. وذلك من لطيف الارتباط. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 199 إلى ص 205. ﴿1﴾ البحر المحيط 10/ 100. ﴿2﴾ التفسير الكبير 29/ 311. ﴿3﴾ أنظر معاني النحو 1/ 156 وما بعدها. ﴿4﴾ التفسير الكبير 29/ 311.
﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ سورة الصف ﴿١﴾