الإعدادات
﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ﴿هُوَ الْأَوَّلُ﴾ أي ليس لوجوده بداية وهد قبل كل شيء. ﴿وَالْآخِرُ﴾ أي ليس لوجوده نهاية وليس بعده شيء. وهذا مقتضى قوله ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ - القصص ﴿۸۸﴾. ﴿وَالظَّاهِرُ﴾ أي الذي تجلى للعقول ونصب الدلائل الظاهرة على وجوده. وهو الغالب العالي على كل شيء وفوق كل شيء فليس معه شيء وليس فوقه شيء، من الظهور وهو الغلبة كما قال تعالى ﴿فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ - الصف ﴿14﴾. فللظاهر معنيان كلاهما مراد : الظاهر بدلائله، الغالب على كل شيء. ﴿وَالْبَاطِنُ﴾ أي غير المدرك بالحواس المحتجب عن الأبصار كما قال تعالى ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ - الأنعام ﴿103﴾. وهو الذي يعلم بواطن كل شيء وخفاياه. فللباطن معنيان: المحتجب عن الأبصار، والذي يعلم باطن كل شيء وكلاهما حق. وإن كان أحد المعنيين أظهر من الآخر. وتعريف الصفات بأل يفيد القصر فلا يشاركه شيء في هذه الصفات. فليس معه أول ولا آخر وليس معه ظاهر ولا باطن فهو أول كل شيء وآخر كل شيء. يزول كل شيء ولا يزول وليس معه أحد في كونه ظاهراً أو باطناً. ولم يقيد هذه الصفات بشيء لا بإضافة ولا بوصف أو أي تقييد آخر وذلك للدلالة على أنه الأول المطلق والآخر المطلق والظاهر المطلق والباطن المطلق لا بحسب شيء من الاشياء. لقد دلت هذه الآيات على إبطال الشرك فليس معه شريك. كما دلت على أنه الغني المطلق فلا يحتاج إلى شيء لأنه كان قبل كل شيء. وأنه الخالق وأنه القادر. ودل قوله: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ على علمه المطلق فهو الإله الحق. جاء في ﴿التفسير الكبير﴾: ﴿أنه الأول ليس قبله شيء، والآخر ليس بعده شيء﴾ ... وأنه ظاهر بحسب الدلائل وأنه باطن عن الحواس محتجب عن الأبصار... وذكروا في الظاهر والباطن أن الظاهر هو الغالب على كل شيء ومنه قوله تعالى ﴿فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ أي غالبين عالين... وهذا معنى ما روي في الحديث ﴿وأنت الظاهر فليس فوقك شيء﴾. وأما الباطن فقال الزجاج إنه العالم بما بطن كما يقول القائل: فلان يبطن أمر فلان أي يعلم أحواله الباطنة ﴿1﴾. وجاء في ﴿الكشاف﴾: ﴿الظاهر﴾ بالأدلة عليه ﴿والباطن﴾ لكونه غير مدرك بالحواس، وقيل الظاهر العالي على كل شيء الغالب له من: ظهر عليه إذا علاه وغلبه، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه. وليس بذاك ﴿2﴾. وجاء في ﴿البحر المحيط﴾: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ﴾ الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة... وقيل الأول الذي كان قبل كل شيء... ﴿الظَّاهِرُ﴾ العالي على كل شيء الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه. ﴿وَالْبَاطِنُ﴾ الذي بطن كل شيء أي علم باطنه ﴿3﴾. وجاء في ﴿التحرير والتنوير﴾ في قوله ﴿هُوَ الْأَوَّلُ﴾ أنه لم يذكر لهذا الوصف هنا متعلق ﴿بكسر اللام﴾ ولا ما يدل على متعلق لأن المقصود أنه الأول بدون تقييد، ويرادف هذا الوصف في اصطلاح المتكلمين صفة ﴿القدم﴾. واعلم أن هذا الوصف يستلزم صفة الغني المطلق وهي عدم الاحتياج إلى المخصص أي مخصص يخصصه بالوجود بدلاً من العدم لأن الأول هنا معناه الموجود لذاته دون سبق عدم. وعدم الاحتياج إلى محل يقوم به قيام العرض بالجوهر. ويستلزم ذلك انفراده تعالى بصفة الوجود لأنه لو كان غير الله واجباً وجوده لما كان الله موصوفاً بالأولية ... فلذلك تثبت له الوحدانية... فلما تقرر أن كونه ﴿الأول﴾ متعلق بوجود الموجودات افتضي أن يكون وصفه بـ ﴿الآخر﴾ متعلقاً بانتقاض ذلك الوجود أي هو الآخر بعد جميع موجودات السماء والأرض ﴿4﴾. ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي المحيط علمه بكل شيء، وأنه وسع كل شيء علماً، وقال: ﴿عَلِيمٌ﴾ ولم يقل ﴿عالم﴾ للدلالة على بالغ علمه وسعته. ومن دقيق الاستعمال القرآني وطريفة أنه خصص اسم الفاعل ﴿عالم﴾ بعلم الغيب مفرداً والشهادة مفردة فيقول ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أو ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ ولم يذكر مرة لفظ ﴿عالم﴾ مع الجمع. فإذا جمع الغيب أتى بـ ﴾علام﴾ الدال على المبالغة والكثرة فيقول ﴿علام الغيوب﴾. فخصص اسم الفاعل ﴿عالم﴾ بالمفرد. وقرن صيغة المبالغة ﴿علام﴾ بالجمع فهو يقول ﴿عالم الغيب﴾ وذلك في ثلاثة عشر موضعا ﴿5﴾. وقال: ﴿علام الغيوب﴾ في أربعة مواقع من القرآن الكريم ﴿6﴾. فناسب بين الصيغة ومتعلقها. بل إنه خصص لفظ ﴿عالم﴾ بعلم الغيب أو علم الغيب والشهادة وخصص ﴿علام﴾ بجمع الغيب فلم يستعمله مع غيره. أما ﴿عَلِيمٌ﴾ فقد أطلق استعماله فلم يقيده بمعلوم معين بل يذكره مع جميع المعلومات. فهو يقول مثلا ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ - البقرة ﴿۲۹، ۲۳۱﴾ ﴿بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ - يس ﴿۷۹﴾ ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ - البقرة ﴿ 246﴿239﴾﴾ ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ - آل عمران ﴿115﴾ ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ - آل عمران ﴿154﴾ أو يطلق الاسم الكريم فلا يخصصه بشيء وذلك نحو ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ - البقرة ﴿32﴾ ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ - البقرة ﴿127﴾ ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ - البقرة ﴿247، 268﴾، آل عمران ﴿73﴾. ومن الملاحظ أيضاً أنه حيث ذكر اسمه ﴿الْعَلِيمُ﴾ . فإما أن يطلقه كما ذكرنا فلم يقيده بشي، نحو ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أو وَهُوَ ﴿السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ، أو أن يجعله محيطاً بكل شيء نحو ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أو ﴿بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ . أو أن يستعمله مع الجمع أو فعل الجمع وذلك نحو قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ - البقرة ﴿ 246﴿239﴾﴾ ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ - آل عمران ﴿115﴾ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ - آل عمران ﴿63﴾ فاستعمله مع الجمع. ونحو ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ - آل عمران ﴿154﴾ فقد جمع الصدر وقوله ﴿ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ - يوسف ﴿50﴾ فأضاف الكيد إلى ضمير الجمع. أو أن يقول: ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ - البقرة ﴿215﴾ ونحو ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ - البقرة ﴿۲۷۳﴾ ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ - البقرة ﴿183﴾. فقد جمع الفاعل فقال ﴿تَفْعَلُوا ﴾ ولم يقل ﴿تفعل﴾ ونحوه، ﴿تُنْفِقُوا﴾ و ﴿تَعْمَلُونَ﴾ . ولم يرد استعمال اسم الله ﴿الْعَلِيمُ﴾ مع متعلق مفرد أو فعل فاعل مفرد. وهو تناسب لطيف بين المبالغة في الاسم الكريم وكثرة متعلقات الفاعلين. وبهذا يتبين أنه خصص اسمه: ﴿العالم﴾: بعلم الغيب المفرد أو الغيب والشهادة المفردين. واسمه: ﴿العلاَم﴾: بعلم الغيب مجموعاً فيقول ﴿علام الغيوب﴾ . أما اسمه ﴿العليم﴾: فإنه أطلق فيه العلم بالمعلومات عموماً ولم يخصصه بنوع من المعلومات معين. أو أن يطلق الاسم فلا يقيده بشيء، أو أن يستعمله مع الجمع أو فعل الجماعة. وأما إذا ذكر اسمه بصيغة الجمع: ﴿عالمين﴾. فإنه للتعظيم كما هو معلوم. وهذا من دقيق الاستعمال القرآني وخواصه، وهو من أوضح الأمور على القصد في التعبير القرآني. إن هذه الآية أعنى قوله ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ مرتبطة بما بعدها ارتباطاً وثيقاً. فقوله ﴿هُوَ الْأَوَّلُ﴾ مرتبط بقوله ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، فالذي خلق السماوات والأرض هو الأول. وقوله ﴿الْآخِرُ﴾ مرتبط بقوله ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ . وقوله في ﴿وَالظَّاهِرُ﴾ مرتبط بقوله ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ﴾ فالذي له الملك هو الظاهر الغالب في أحد معنييه، وفي المعنى الآخر مرتبط بقوله ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ فهي آيات دالة على وجوده سبحانه. وقوله ﴿الْبَاطِنُ﴾ بمعنى المحتجب الذي لا يدرك مرتبط بقوله ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ﴾ ، وبمعنى الذي بطن كل شيء أي علمه مرتبط بقوله ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ وقوله ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ . **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 238 إلى ص 242. ﴿1﴾ التفسير الكبير 29/210 – 215. ﴿2﴾ الكشاف 4/61 ﴿دار الفكر﴾. ﴿3﴾ البحر المحيط 10/100 ﴿دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع﴾. ﴿4﴾ التحرير والتنوير 27/360 – 361 ﴿دار سحنون﴾. ﴿5﴾ أنظر على سبيل المثال: الأنعام 73. التوبة 94، 105. سبأ 3. الجن 26. ﴿6﴾ أنظر المائدة 109، 116، التوبة 78. سبأ 48.
﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ سورة الحديد ﴿٣﴾