صفحات الموقع
برنامج لمسات بيانية ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ بعد أن ذكر أن آيات الله المنزلة ليست بشعر وأن الرسول ليس بشاعر وإنما هي ذكر وقرآن مبين لفت نظرهم إلى آيات الله في خلقه فذكر أقرب شيء إليهم وألصقه بحياتهم وهي الأنعام فقال أو لم يروا إلى هذه الأنعام وإلى قدرة خالقها فيذكروا نعمة ربهم عليهم بها فيشكروه عليها ويفردوه بالعبادة؟ ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا يرد في القرآن الكريم التعبير ﴿أوَلم يروا بالواو بعد همزة الاستفهام وقد يرد ﴿ألم يروا من دون واو كما مر في هذه السورة في قوله تعالى ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ﴿31. وهذه الواو عند النحاة هي واو العطف وهي تعطف على مذكور وقد تعطف على مقدر. فالمعطوف على المذكور نحو قولنا ﴿ألم تر إلى خالد ماذا فعل أوَلم تر إلى أخيه كيف أنكر عليه؟ فهذا عطف على مذكور. أما المعطوف على المقدر فهو قسمان: قسم جرى له ذكر من غيرك فتبني عليه كلامك. وقسم لم يجر له ذكر صريح ومع ذلك تأتي بالواو على التأويل وتقدير المعنى. فالأول كأن يقول محدثك: رجع خالد من الموصل. فتقول له: أوّ زرته بعد عودته؟ فتبني كلامك على ما ذكره المتكلم. جاء في ﴿كتاب سيبويه: "﴿هذا باب الواو التي تدخل عليها ألف الاستفهام وذلك قولك: هل وجدت فلاناً عند فلان؟ فيقول: أوّ هو ممن يكون عند فلان؟ فأدخلت ألف الاستفهام. وهذه الواو لا تدخل على ألف الاستفهام وتدخل عليها الألف ﴿1". وجاء في ﴿النكت في تفسير كتاب سيبويه للأعلم الشنتمري. فإذا قال القائل: هل وجدت فلاناً عند فلان؟ فقال المجيب: أو هو ﴿2 ممن يكون عنده؟ كلام المخاطب عطف على كلام المتكلم باستفهام وغير استفهام" ﴿3. والقسم الآخر كما في الآية هذه وكقوله تعالى في سورة الملك: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ الملك ﴿19. يبني ذلك على ما تقدم من الأمور المشاهدة المعلومة فيعطف عليها. وقد ذكروا في الفرق بين ﴿أولم تر و﴿ألم تر في القرآن الكريم أن ﴿أوّلم تر بالواو إنما تكون لما هو مشاهد و﴿ألم تر إنما تكون في الاستدلال بالنظر العقلي. وقالوا أيضاً: أن ﴿أولم تر يستعمل فيما كثر أمثاله في الحياة مما هو مشاهد. أما ﴿ألم تر من دون الواو فهو من باب ما لا يكثر مثله. جاء في ﴿البرهان: وأعلم أنه قد وقع في القرآن ﴿ألم يروا كم أهلكنا في بعض المواضع بغير واو كما في الأنعام، وفي بعضها بالواو، وفي بعضها بالفاء ﴿أفلم يروا. وهذه الكلمة تأتي على وجهين: أحدهما أن تتصل بما كان الاعتبار فيه بالمشاهدة فيذكر بالألف والواو ولتدل الألف على الاستفهام، والواو على عطف جملة على جملة قبلها، وكذلك الفاء لكنها أشد اتصالاً بما قبلها. والثاني أن يتصل بما الاعتبار فيه بالاستدلال فاقتصر على الألف دون الواو والفاء ليجري مجرى الاستئناف. ولا ينتقض هذا الأصل بقوله في النحل﴿ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ لاتصالها بقوله﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ وسبيلها الاعتبار بالاستدلال فبُني عليه ﴿ألم يروا إلى الطير﴿4. وجاء في درة التنزيل: "وكل موضع فيه بعد ألف الإنكار واو ففيه تبكيت على ما يسهل الطريق إلى ما بعد الواو فالاعتبار لكثرة أمثاله كقوله ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ كأن قائلاً قال: كذبوا الرسل وغفلوا عن الفكر والتدبر فقال: فعلوا ذلك ولم ينظروا إلى المشاهدات التي تنبه الفكر فيها من الغفلة. وكذلك قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ كأنه قال: كذبوا ولم ينظروا إلى ما يردع عن الغفلة من الفكر في المشاهدات... وكل ما فيه واو مثل ﴿أولم يروا فهو تنبيه على ما تقدمه في التقدير أمثال منبهة لكثرتها فالتبكيت فيه أعظم فهذا كله في المشاهد وما في حكمته. وما ليس فيه واو مثل ﴿ألم يروا فهو ما لم يقدر قبله ما يعطف عليه ما بعده لأنه من باب ما لا يكثر مثله وذلك مما يؤدي إلى علمه بالاستدلالات كقوله في سورة الأنعام أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا إلى قوله ﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وهذا ما لم يشاهدوه ولكن علموه" ﴿5. وقد قال في آية يس هذه ﴿أولم بالواو لأنه ذكر أمراً يقع الاستدلال فيه بالمشاهدة كأنه قال: إن ما ذكرناه من الآيات والدلائل لم يهدهم إلى الحق ويردعهم عن الشرك أو لم يروا إلى ما يشاهدونه كثيراً ويعيشون معه وينتفعون به وهو الأنعام كيف ذللها الله لهم وسخرها لمنفعتهم؟ وبذلك يوجه أنظارهم إلى ما هو كثير المشاهدة فيستدل به. ونحو ذلك أن تحاجٌ أحداً وتأتي له بالبراهين والأدلة فلم يقتنع فتأتي له ببرهان ظاهر الدلالة سهل المسلك كثير الوقوع. جاء في ﴿روح المعاني: "﴿أولم يروا الهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على جملة منفية مقدرة مستتبعة للمعطوف أي ألم يتفكروا أولم يلاحظوا أو ألم يعلموا علماً يقينياً مشابهاً للمعاينة. زعم بعضهم أن هذا عطف على قوله تعالى ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَاالخ. والأول للحث على التوحيد بالتحذير من النقم وهذا تذكير بالنعم المشار إليها بقوله ﴿إنا خلقنا لهم أي لأجلهم وانتفاعهم ﴿6. أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ أسند الخلق إلى نفسه فقال ﴿أنا خلقنا ولم يبني للمجهول فيقول ﴿خُلق كما قال في مواطن أخرى من نحو قوله ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا النساء ﴿28 وذلك أن هذا من باب التفضل والإنعام. والقرآن الكريم يسند النعمة والتفضل والخير إلى نفسه سبحانه. ثم إنه لو بناه للمجهول لم يدل على أن الخالق هو الله سبحانه. ولا يتناسب ذلك مع السياق الذي وردت فيه الآية والذي أراد الله فيه أن يظهر آياته ونعمه على خلقه ليعبدوه ويوحدوه فتكون الجهة مجهولة. ثم إنه قال ﴿أَفَلَا يَشْكُرُونَ وإذا كان الفاعل مجهولاً كانت الجهة التي يوجه إليها الشكر مجهولة فلا يعرفون الجهة التي ينبغي أن يقدموا لها الشكر. وقد تقول: لقد أسند الخلق هنا إلى ضمير المتكلم وأسنده في سورة النحل إلى ضمير الغائب فقال﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ مع أن الموطنين متشابهين. فما الفرق؟ ولم ذاك؟ فنقول: إن كل تعبير مناسب لما ورد فيه من أكثر من وجه. من ذلك أن السياق في سورة النحل مبني على الإسناد إلى ضمير الغيبة بل إن جو السورة مبني على ذلك، قال تعالي: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ ... خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ... خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ... وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ ... وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ... هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ ... يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ ... وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ... وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ ... وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ وغير ذلك. وأن السياق في سورة يس مبني على الإسناد إلى ضمير المتكلم وأن جو السورة كذلك. قال تعالى ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا ... وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا... إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ ... إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ... وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ... أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا... وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا... وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ .. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ... الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ ... وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ... أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ ... وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ... أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ إلى آخره. وغير ذلك وغيره. فناسب كل تعبير الموطن الذي ورد فيه. ثم إن ما ورد في يس أكثر تكريماً وتفضلاً مما ورد في النحل فأسنده إلى نفسه. وهذا هو الخط العام في إسناد النعمة والخير والتفضل. وإن الآيات التي ورد فيها كل تعبير يوضح ذاك. قال تعالى في يس: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ وقال في سورة النحل: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴿5 - 7 فقد ورد ضمير المتكلم الذي يعود على الله سبحانه أربع مرات في يس وهي: إنّا، خلقنا، أيدينا، ذللنا. ولم يرد ضمير الغيبة الذي يعود على الله سبحانه إلا مرة واحدة في النحل وهو الضمير المستتر في ﴿خلقها. ثم لننظر إلى مواطن التكريم في الموضعين: ١- قال في يس ﴿خَلَقْنَا لَهُمْ فجعل الخلق لهم. في حين قال في النحل ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ ولم يقل ﴿لكم وإنما قال ﴿لكم فيها دفء ﴿7. ۲- قال في يس﴿ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَاللدلالة على الاهتمام والتكريم كما تقول: هذا صنعته لك بيدي. ولم يقل مثل ذلك في النحل. ٣- قال في يس ﴿فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ فملكها لهم. ولم يذكر في النحل أنه ملكها لهم. 4- قال في يس إنه ذللها لهم فقال ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ولم يقل مثل ذلك في النحل. 5- ذكر في يس أن منها ركوبهم. وذكر في النحل أنها تحمل أثقالهم في الأسفار. 6- ذكر في يس أن لها فيها مشارب. ولم يذكر مثل ذلك في النحل. 7- ذكر في يس والنحل أنهم منها يأكلون. ۸- ذكر في يس والنحل أن لهم فيها منافع. 9- ذكر في النحل أن لهم فيها دفئاً. ولم يذكر ذلك في يس. وهو يدخل في المنافع التي ذكرها في يس. 10 - ذكر في النحل أن لهم فيها جمالاً حين يريحون وحين يسرحون. ونلخص ما تفرد به كل موضع من الموضعين. ما تفردت به سورة يس: 1- أن الخلق لهم. 2- تمليكها لهم. 3- تذليلها لهم. 4- الركوب. 5- المشارب. ما تفردت به النحل: 1- الدفء. 2- حمل الأثقال. 3- الجمال. وأظن أن معرفة أي الموطنين أكثر تكريماً وتفضلاً مما لا يحتاج إلى بيان. هذا إضافة إلى أنه يحسن بنا أن نذكر أن ما تفردت به النحل يدخل في المنافع التي ذكرها في يس بقوله وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ. أما ما تفردت به يس فقد لا يدخل في المنافع كالتمليك والتذليل وأن الخلق لهم فناسب كل تعبير الموضع الذي ورد فيه من كل وجه. والله أعلم. وقد تقول: لقد استعمل في القرآن في يس الفعل ﴿خلق فقال ﴿أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ، واستعمل في سورة غافر الفعل ﴿جعل فقال ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿79. فلم ذاك؟ وما الفرق؟ والجواب أنه قال في يس ﴿أَفَلَا يَشْكُرُونَ وقال في غافر.﴿ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ فجاء في يس بما هو أدعى للشكر. فالقول ﴿خلقته لك أدل على الاهتمام والعناية من ﴿جعلته لك ذلك أن الخالق له إنما جعله له ابتداء قبل إيجاده فلا يشترط فيه ذاك. ونحو ذلك أن تقول ﴿صنعت هذه السيارة لك أو ﴿جعلت هذه السيارة لك. فقولك ﴿جعلتها لك معناه ﴿ملكتها إياك، وجعلتها لتستفيد منها ومعلوم أنها لم تصنع لك ابتداء. أما قولك ﴿صنعتها لك فمعناه أنها صنعت لك ابتداء لا لغيرك. فقوله ﴿خَلَقْنَا لَهُمْ أدل على الاهتمام والعناية وأدعى إلى الشكر. ثم إن ما ورد في الآيتين يوضح ذلك. قال تعالى في سورة غافر: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ فالذي ذكره في يس أدعى إلى الشكر مما في غافر ذلك أنه قال في يس: ﴿أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ، ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا، ﴿فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ، و ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ، ﴿فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ، ﴿وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ، و ﴿لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ، و ﴿مَشَارِبُ، في حين قال في غافر: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ ﴿لِتَرْكَبُوا مِنْهَا، ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ. و﴿َلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ. فزاد في يس علة ما في غافر: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا و ﴿فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ و ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ وزاد ﴿المَشَارِبُ على المنافع فكان ما في يس أدعى إلى الشكر. ومما حسن ذلك أيضاً أنه تكرر ذكر الجعل في غافر وتكرر ذكر الخلق في يس فقال في غافر: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ- ﴿61. وقال: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا ﴿64. فناسب قوله: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ وقال في يس ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا وقال ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ﴿77 ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ فناسب ذكر الخلق في يس وذكر الجعل في غافر من كل وجه والله أعلم. ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا معنى ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا﴿ أي ما تولينا نحن إحداثه وعمله من غير واسطة ولا شركة ولا يمكن لغيرنا أن يعمله﴿8. وأسند العمل إلى اليد لأن الأشياء المصنوعة إنما تباشر باليد فيقال: هذا مما عملته يدي. فعبر عن ذلك بما يقرب من أفهامهم. جاء في ﴿البحر المحيط: "لما كانت الأشياء المصنوعة لا يباشرها البشر إلا باليد عبر لهم بما يقرب من أفهامهم بقوله ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أي مما تولينا عمله ولا يمكن لغيرنا أن يعمله. فبقدرتنا وإرادتنا برزت هذه الأشياء لم يشركنا فيها أحد"﴿9. وجاء في ﴿فتح القدير: "﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا شركة. وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص والتفرد بالخلق كما يقول الواحد منا: ﴿عملته بيدي للدلالة على تفرده بعمله"﴿10. و ﴿مَا تحتمل أن اكون اسماً موصولاً فيكون المعنى ﴿خلقنا لهم من الذي عملته أيدينا أي من الأشياء التي عملتها أيدينا. وتحتمل أن تكون مصدرية فيكون المعنى ﴿خلقنا لهم من عمل أيدينا. وكلاهما مراد ولكل منهما دلالة. ولو عبر عن ذلك بـ ﴿الذي فقال ﴿من الذي عملته أيدينا لكان نصاً في الموصولية الاسمية ولم يحتمل المصدرية. وكذلك لو قال ﴿مِمَّا عَمِلَتْه أَيْدِينَا فذكر العائد. ولم يقل أياً منهما للتوسع في المعنى والله أعلم. ثم إنه قال ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ولم يقل ﴿ما عملت أيدينا ليدل على أن هذا بعض ما عملته يد القدرة الإلهية ولو قال ﴿ما عملت لاقتصر العمل على الأنعام. فما قاله أدل على التنوع وأدل على القدرة والتكريم. وقال ﴿أَيْدِينَا بصيغة الجمع ذلك لأنه ذكر نفسه بصيغة الجمع ﴿أَنَّا خَلَقْنَا. والملاحظ في القرآن أنه إذا ذكر الله نفسه بصيغة الإفراد أفرد الليل أو ثناها فيقول ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ الفتح ﴿10 ويقول ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ المائدة ﴿64 ويقول ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ص ﴿75 – وإذا ذكر نفسه بصيغة الجمع جمع اليد كقوله تعالى ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا وهو المناسب. ﴿أَنْعَامًا الأنعام جمع نَغّم وهي البقر والغنم والإبل﴿11. وهو مفعول ﴿خَلَقْنَا وقدم الجارين على المفعول للاهتمام بشأنهما فقال ﴿خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فقدم ما يتعلق بتكريمهم وهو ﴿لَهُمْ أي لأجلهم للدلالة على الاهتمام بالإنعام عليهم وتكريمهم ولأنهم العلة في خلق الأنعام فقدم العلة على المعلول. ووضع الأنعام بجنب ما عملته الأيدي لأنها بعض منه. ﴿فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ قدم الجار والمجرور ﴿لَهَا على ﴿مَالِكُونَ للاهتمام بشأن المملوك وذلك لأنها من أهم أموالهم وأكرمهم عليهم فقدمها للاهتمام بها. ولا يفيد هذا التقديم قصراً. ونحو هذا التقديم مما لا يفيد القصر قوله تعالى ﴿وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ يوسف ﴿72 فقدم ﴿بِهِ على ﴿زَعِيمٌ لأهمية حمل البعير آنذاك وليس معناه أنا زعيم به دون غيره. ونحو هذا أن يقول شخص ﴿من يتكفل بدّيني وأهلي وأنا أكفيكم أمر هذا الفاتك قاطع الطريق؟ فيقول له قائل: ﴿أنا بذلك كفيل. فليس معناه أنا كفيل بذلك دون غيره وإنما قدمه للاهتمام فإن هذا الأمر هو ما أهمه وهو الذي يحول بينه وبين تولي أمر قاطع الطريق فيقدمه للاهتمام. هذا علاوة على رعاية الفاصلة. وقال ﴿مَالِكُونَ بالاسم ولم يقل ﴿يملكون للدلالة على ثبات الأمر واستقراره ولو قال ﴿يملكون لاحتمل عدم الثبوت والحصول وأنهم غير مالكيها الآن وأنهم سيملكونها في المستقبل. جاء في ﴿روح المعاني في قوله ﴿فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ: "وقدم لرعاية الفواصل مع الاهتمام، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرار مالكيتهم لها واستمرارها"﴿12. وتمليكها للإنسان من تمام النعمة عليهم فلو خلقها لهم من دون تمليك لما كان بها تمام الانتفاع. جاء في ﴿التفسير الكبير: "وقوله تعالى ﴿فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ: إشارة إلى تمام الإنعام في خلق الأنعام فإنه تعالى لو خلقها ولم يملكها الإنسان ما كان ينتفع بها ﴿13. وجاء في ﴿الكشاف: "أي خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم فهم متصرفون فيها تصرف الملاك مختصون بالانتفاع فيها لا يزاحمون, أو فهم لها ضابطون قاهرون" ﴿14.

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ سورة يس ﴿٧١﴾

المصدر: https://quranpedia.net/note/48969